كيف يُعاد تشكيل عقولنا في العصر الرقمي بوعيٍ زائف

كيف يُعاد تشكيل عقولنا في العصر الرقمي بوعيٍ زائف

الإعلام الرقمي والوعي الزائف   

كيف يُعاد تشكيل عقولنا في العصر الرقمي بوعيٍ زائف

يُصدم الفرد اليوم بطوفانٍ كبيرٍ ومخيفٍ من التدفقات المعرفية، والبرامج الترفيهية، والكوميدية، وبرامج استهلاك الفراغ، وهو أمام كلّ هذا يملك قدرةً محدودة على إيقاف هذا الطوفان؛ ونحن نرى أنّ الطوفان لا يُوقَف أصلًا، ولكنّنا نوقن أنّ ترشيد هذه التدفقات ممكنٌ من جهة المستقبِل لا المرسِل؛ فالمرسلون من القوّة والجبروت بما يجعل إيقاف إرسالهم أمرًا عسيرًا، ويمكن للفرد أن يتحكّم بذاته ويؤثّر في نفسه، معيدًا إنشاء مصدّاتٍ معرفيةٍ تتلاحم مع الوعي السويّ القائم على أسس الوجود الإنساني والفطري من جهة، وعلى المبادئ والقيم والأحكام الإسلامية من جهةٍ أخرى.

فالوعيُ الزائف الذي نواجهه خطيرٌ جدًّا، ومؤذِنٌ بانحلال القيم والمبادئ الفطرية، وإنتاج تحوّلاتٍ نوعيةٍ في نفوسنا وسلوكنا، مثل:

هذه الآفاتُ الخمسُ يُنزِلها الوعيُ الزائفُ بنا، فنُصبِحُ غرباءَ عن أنفسِنا وعن تصوّراتِنا ومعتقداتِنا وعاداتِنا، حتى تنتهيَ إلى أن نُمسيَ بلا جذورٍ ولا أسسٍ نتّصلُ بها، فتفقدَ الإرادةُ الحرّةُ في الاختيارِ والطموحِ والعملِ.

- تشويهُ صورةِ الذات؛ لا يلبثُ الفردُ في العالمِ الرقميِّ المفتوحِ والممتدِّ أن تُطِلّ عليه أنماطٌ من الحياةِ الأكثرِ سهولةً ولِينِ عيشٍ ورَغَدٍ ومعدّلاتِ كوميديا بلا حدود، غير أنّ الغائبَ أنّ هذه الأنماطَ لا يعيشُها إلا نِسبةٌ قليلةٌ جدًا، تُقارِبُ حدَّ الندرة، خاصةً في ما يُسمّى اليوم "البلوجر" أو المؤثّر أو "الفاشينيستا" أو أمثالَهم؛ فيُقارِنُ الفردُ بين حياتِه وحياتِهم، فيفقِدُ احترامَه لذاتِه، ويُشَكِّكُ في مُنجَزاتِه وقدراتِه؛ إذ معيارُ القُدوةِ قد تبدّل.

- خلقُ القيمِ الاستهلاكيةِ بشكلٍ مستمرٍّ؛ يستهدفُ النمطُ الاستهلاكيُّ الرأسماليُّ الجديدُ فقدانَ حاسّةِ الرضا؛ فكلّما جاءت موضةٌ نسخت أختَها، فتتحوّلُ السلعُ إلى أصنامٍ، ويتحوّلُ الفردُ إلى عبدٍ لها.

- فقدانُ بوصلةِ الحقيقةِ العلمية؛ إنّ كثرةَ المعلوماتِ وكثافتَها وطرائقَ عرضِها والتشويقَ السريعَ وتقَلُّبَها على البصرِ والسمعِ والعقلِ يُفقِدُ الفردَ قدرتَه على التمييز، ويجعلُه يُسَلِّمُ بكلّ ما يبلُغُه علمُه دون تحقّقٍ من صحّته؛ فكثرةُ المؤثّراتِ وطرائقِها المتنوّعةِ وتقَلُّبُها على نفسِه ووعيِه تعملُ فيه عملَ التنويمِ المغناطيسيّ.

- التحوّلات في المفاهيم والأسس الفطريّة؛ يتلاعب الإعلامُ الزائفُ بالمفاهيمِ تلاعُبًا ينسجمُ مع تصوّراتِ ثقافةِ الاستهلاكِ والكوميديا والراحةِ والفراغ، فتتّخذُ المفاهيمُ مساراتٍ دلاليّةً جديدةً تتوافقُ مع هذه الأنماط الإعلاميّة، فيصبحُ النجاحُ ماليًّا محضًا، ويُضرَبُ على مفهومِ الفلاحِ القرآنيّ ويغيب، فلا يميّزُ الناسُ بين النجاحِ والفلاح، وينسوا أنَّ النجاحَ الذي يقومُ على الفلاحِ يكونُ وبالًا على الإنسان. فإذا ما التفتْنا إلى الحرّيّة وجدناها تُنكِرُ نفسَها؛ فبعد أن كانت الحرّيّةُ سبيلًا للاستقلال في الاختيار والاعتقاد والعمل، انقلبت إلى نَخّاسٍ يستعبدُ البشرَ في أذواقِهم واعتقاداتِهم، والعجيبُ أنّهم منقادون بمحضِ إرادتِهم لهذا النخّاس يُوردُهم حيثُ يريد.

- انتشار الإحباط؛ إنَّ من أخطرِ الأمراضِ المقارنةُ الدائمةُ بين الذاتِ الواقعيّة والصورِ الإعلاميّة المثاليّةِ المُروَّجةِ وغيرِ الواقعيّة غالبًا. وأفضلُ صورةٍ تُعبِّرُ عن هذا: الحمارُ والجزرةُ المربوطةُ بعُودٍ فوقَ ظهرِه والممتدّةُ أمامَه؛ فهو كلّما ظنَّ أنّه اقتربَ منها ابتعدَتْ بقدرِ اقترابِه، ولا يزالُ يتقدّمُ وهي تتأخّرُ متردّدًا بين الأملِ واليأس. ولكنَّ خطرَ الجُزَرِ المُحرَّمةِ على الفردِ (التي تُعَدّ غيرَ قابلةٍ للوصولِ لعدمِ واقعيتِها) أشدُّ وأنكى، لما يُصيبه من الإحباط. ووقتها يتحوّلُ من القوّةِ إلى الضعف، وعندها يصبحُ تُرسًا في ماكينةِ الحياةِ يعملُ بلا طموحٍ ولا أمل، فقط من أجلِ البقاء، لكنَّ فائضَ عملِه في النهاية يصبُّ عند غيرِه من أهلِ الطموح.

وإنشاءِ دِرعٍ واقٍ أو بناءِ مستقبِلاتٍ واعيةٍ وحذِرةٍ، نضع هنا وصفةً لمضادٍّ حيويٍّ لهذه الآفات:

- تعزيزُ التربيةِ الإيمانيةِ والأخلاقيةِ؛ ووصلُ الأفرادِ بالأسسِ والثوابتِ الدينيةِ، والتفاعلُ مع المؤسساتِ الإسلاميةِ كالمساجدِ والعلماءِ والجمعياتِ والمُربّين والمُصلحين والنوادي الصيفية الهادفة.

- تعزيزُ التربيةِ الإعلاميةِ في المدارسِ والجامعاتِ؛ فلابدّ أن تحتويَ المناهجُ الدراسيةُ على مادةِ تربيةٍ إعلاميةٍ تُبيّن للطالب كيف يتعامل مع هذا التدفّق الرقمي أو الطوفان الرقمي، مع تعليمه الوسائلَ التي تفتح له آفاقًا من الاستفادةِ والتفاعلِ التي تُسهم في بناءِ شخصيته ومستقبله على أحسنِ ما يكون.

- وضعُ تشريعاتٍ لتقنينِ المحتوى المُضلِّل؛ وهنا يقع على عاتقِ المؤسساتِ التشريعيةِ والبرلماناتِ التي تشعر بالمسؤولية تجاه مواطنيها أن تُبادر إلى طرحِ تشريعاتٍ تحمي الوعيَ قدرَ الاستطاعة، وعلى الأقل تُدين هذه المواقعَ وتجعلها محلَّ شُبهةٍ ورَفْضٍ.

- تشجيعُ الشبابِ على ممارسةِ التفكيرِ النقدي؛ وأفضلُ مكانٍ لها هو المدارسُ والمناهجُ التعليميةُ، حيث يتنوّع التفكيرُ النقدي بتنوّع الموادِّ الدراسيةِ والتربويةِ، ما يمنح الطلابَ تأسيسًا علميًّا للتعامل مع المعرفةِ حتى لو بدت مُزخرفةً ومُزَوَّقةً.

- نشرُ مبادراتٍ رقميةٍ تُعلي قيمةَ المعرفةِ وليس "الترند"؛ وذلك بإنشاءِ قنواتٍ رقميةٍ هادفةٍ في شتّى المعارفِ من الدينِ والتاريخِ والسياسةِ والاقتصادِ والتربيةِ والتعليمِ والإبداعِ والجمال، وإبرازِها بدائلَ صحيةً وسليمةً لتدفّقِ المعرفةِ المخيف.

إنّ هذه التحوّلاتِ الكبيرةَ في العالمِ واستهدافَ وعيِ الأفرادِ والجماعاتِ يُحتّم بناءَ مواجهةٍ مفتوحةٍ وواعيةٍ كذلك، فلا بدَّ من التعاملِ مع التدفّقاتِ المعلوماتيةِ ضمن نموذجِ «الغربال»، الذي تُصنَع أسلاكُه من القيمِ والهويةِ الإسلاميةِ اللذَينِ يُمارسانِ دورَ المراقِبِ والمُنبِّه والمُرشِد في عمليةِ فرزٍ متواصلةٍ ومراجعةٍ متواصلةٍ كذلك.