حين يكتمل مشروع النهوض الحضاري على أسس الرؤية الإسلامية، يتشكل مجتمع جديد يزاوج بين الروح والقيم من جهة، والعلم والتقنية والإنجاز المادي من جهة أخرى. مجتمعٌ ينفتح على المستقبل بقلب مؤمن وعقل مبدع وإرادة حرة. في هذه الرؤية، يُنظر إلى الحضارة بوصفها بناءً متكاملاً للإنسان والعلاقات والقيم، يُعيد صياغة الحياة على هدى من الوحي، وباجتهاد يقرأ السنن والقوانين التي تحكم حركة التاريخ.
أولاً: سمات الإنسان في المجتمع الناهض
الركيزة الأولى في هذا المجتمع هي الإنسان، فهو خليفة الله في الأرض، ومركز كل مشروع حضاري. بعد اكتمال النهضة، يخرج إنسان جديد يحمل هذه السمات:
-
الكرامة المصونة: الفرد يُعامل بما يليق بكرامته التي وهبها الله له، فلا ظلم ولا امتهان. القوانين تحميه، والمؤسسات ترعاه، والوعي الجمعي يرفض المساس بإنسانيته.
-
الحرية المسؤولة: حرية التفكير والاعتقاد والتعبير مصونة، لكنها مؤطرة بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية، فلا تتحول إلى فوضى أو اعتداء على الآخرين.
-
العقل الناقد والمبدع: التعليم والثقافة يُنشئان جيلاً قادرًا على النقد البنّاء والإبداع المستمر، فيكون الإنسان فاعلاً لا تابعًا.
-
الإيمان الفاعل: التدين ليس شكليًا أو طقوسيًا، بل إيمان حي يحرّك الإنسان نحو العمل الصالح، ويجعل كل جهد دنيوي جزءًا من عبادة متصلة بالله.
ثانياً: القيم الموجهة
المجتمع الناهض تحكمه منظومة قيم راسخة مستمدة من القرآن والسنة، لكنها معاصرة في تطبيقها، ومنها:
- العدل: القيمة المركزية التي تضمن استقرار النظام السياسي والاجتماعي. العدل يُمارَس في القضاء، والاقتصاد، والإعلام، والتعليم.
- الرحمة: التي تتسع للضعفاء والمحتاجين، وتشمل البشر جميعًا بل والكائنات والبيئة.
- الشورى: مبدأ المشاركة في صناعة القرار، حيث تُسمع أصوات الجميع، وتُبنى السياسات على الحوار والتوافق.
- الإحسان: قيمة تتجاوز الواجب إلى بذل الجهد بإتقان وجمال.
- التكافل: بحيث لا يترك المجتمع أحدًا خلفه، وتُبنى شبكات تضامن قوية تسند الفقراء والمرضى والمهمشين.
ثالثاً: العلاقات الاجتماعية
علاقات الناس في هذا المجتمع تُبنى على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والقيم العليا.
- الأسرة: هي اللبنة الأولى، قائمة على المودة والرحمة والتكافؤ، تحميها تشريعات عادلة، وتدعمها مؤسسات ترعى الطفولة والأمومة.
- المجتمع المدني: حيّ نشط، تفاعلي، يشارك في إدارة الشأن العام، ويقدّم مبادرات في التعليم والصحة والثقافة.
- العلاقات بين الأجيال: تقوم على الاحترام المتبادل، فالكبار أصحاب خبرة، والشباب أصحاب طاقة، واللقاء بينهما مصدر قوة.
- العلاقات بين الأعراق والأديان: تُبنى على قاعدة "لتعارفوا"، فيتعايش المسلم وغيره بسلام وتعاون، وتُحترم التعددية الدينية والثقافية.
رابعاً: البنية السياسية والإدارية
الدولة بعد النهوض ليست دولة استبداد أو فساد، بل دولة مؤسسات:
- الحكم الراشد: يقوم على الشفافية والمساءلة والشورى، فلا مكان للظلم أو الطغيان.
- المواطنة المتساوية: كل مواطن، بغض النظر عن عرقه أو دينه، يتمتع بالحقوق نفسها ويلتزم بالواجبات نفسها.
- سيادة القانون: لا أحد فوق القانون، وهو مستمد من الشريعة التي تُفهم بروحها المقاصدية وتُطبَّق بمرونة وعدل.
- إدارة رشيدة للموارد: الدولة تُدير ثرواتها بما يحقق التنمية المستدامة ويمنع الهدر والفساد.
خامساً: الاقتصاد والمعرفة
الاقتصاد في المجتمع الناهض يقوم على الإنتاج لا الاستهلاك، وعلى العدالة لا الاحتكار.
- اقتصاد منتج: يعتمد على الصناعة، والزراعة، والتكنولوجيا، ويُشجّع الابتكار وريادة الأعمال.
- نظام مالي عادل: بعيد عن الربا والاحتكار، قائم على المشاركة والمخاطرة العادلة، مثل المضاربة والمشاركة.
- معرفة متجددة: الجامعات ومراكز الأبحاث تقود المجتمع نحو اكتشافات علمية، مرتبطة بحاجاته وقضاياه.
- تكامل إقليمي وعالمي: المجتمع يشارك بفاعلية في الاقتصاد العالمي، لكنه يحافظ على استقلاله وسيادته.
سادساً: الثقافة والهوية
الثقافة هي روح المجتمع وهويته.
- ثقافة أصيلة: تستلهم من التراث الإسلامي والعربي، لكنها منفتحة على الإبداع الإنساني.
- فنون راقية: المسرح، السينما، الفنون التشكيلية، كلها أدوات لتربية الذوق وبناء الوعي.
- إعلام مسؤول: يلتزم بالصدق، ويحترم عقل المشاهد، ويُسهم في تثبيت القيم ونشر الوعي.
- هوية متوازنة: تجمع بين الأصالة والمعاصرة، فلا ذوبان في الآخر، ولا انغلاق على الذات.
سابعاً: العلم والتكنولوجيا
المجتمع الناهض الإسلامي لا يكتفي بالاستهلاك، بل يكون منتجًا للعلم والتكنولوجيا:
- تكنولوجيا مسخرة للخير: الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطب الحيوي، كلها تُستخدم لخدمة الإنسان، لا لاستغلاله.
- تعليم متطور: يعتمد على البحث، والتفكير النقدي، والتعلم مدى الحياة.
- استثمار في العقول: العقول المبدعة تُكرّم وتُشجّع على البقاء والعطاء، فلا نزيف للأدمغة.
ثامناً: العلاقة بالبيئة
المجتمع الناهض الإسلامي يعتبر البيئة أمانة.
- تنمية مستدامة: المشاريع الاقتصادية تُراعي البيئة وتحفظ الموارد للأجيال القادمة.
- وعي بيئي: الناس يتعاملون مع الطبيعة برحمة، فلا تلويث للأنهار، ولا استنزاف للغابات.
- طاقة نظيفة: الاعتماد على الشمس والرياح والموارد المتجددة بدلاً من الوقود الملوِّث.
تاسعاً: العلاقات الدولية
المجتمع بعد النهوض لا يعيش في عزلة، بل يكون شريكًا عالميًا:
- رسالة عالمية: يقدم نموذجًا يُثبت أن الإسلام دين رحمة وعدل، قادر على إلهام الإنسانية.
- سياسة خارجية متوازنة: قائمة على التعاون لا التبعية، وعلى الحوار لا الصدام.
- دعم المستضعفين: يناصر قضايا العدل والحرية، ويقف مع الشعوب المقهورة.
عاشراً: صورة المستقبل
بعد تحقق النهوض الحضاري المستمد من الرؤية الإسلامية، يصبح المجتمع:
- مزدهرًا بالعلم والإبداع، دون أن يفقد بوصلته القيمية.
- عادلاً في توزيع الثروة والفرص، فلا فقر مدقع ولا ثراء فاحش.
- منفتحًا على العالم، لكنه متمسك بهويته وأصالته.
- متوازناً بين المادة والروح، فلا جفاء مادي ولا انعزال روحي.
- مجتمعًا إنسانيًا، تتسع فيه دائرة الرحمة لتشمل الإنسان والبيئة والكائنات جميعًا.
نموذج عالمي بديل
الرؤية الإسلامية للنهوض الحضاري لا تتوقف عند مظاهر النمو الاقتصادي أو العمراني، بل تعيد صياغة الإنسان والعلاقات والقيم. في هذا المستقبل المتخيَّل، تتوازن الحرية مع المسؤولية، والعلم مع الإيمان، والهوية مع الانفتاح. هو مجتمع يقدّم نموذجًا عالميًا بديلًا، يثبت أن بالإمكان الجمع بين الروح والمادة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين المحلية والعالمية. وهكذا، يُبعث الأمل بأن مشروع النهضة ليس حلمًا بعيدًا، بل مسار واقعي حين تتضافر الإرادة مع القيم، والعلم مع الإيمان.