خريطة خطوات عملية لبناء نهضة حضارية في مجتمع معاصر

خريطة خطوات عملية لبناء نهضة حضارية في مجتمع معاصر
إن مشروع النهضة هو مسار تاريخي ممتد، يتطلب وعيًا بالسنن، وإدراكًا للعوامل المركبة التي تصنع الحضارات. الأمم التي حققت نهضتها - كاليابان والصين وماليزيا - لم تنطلق من فراغ، وإنما بنت مشروعها على قاعدة من التشخيص العميق لواقعها، والتأسيس الفكري والقيمي، ثم بناء مؤسسات حامية وموجهة، فانتقلت من مرحلة التمكين المحلي إلى الحضور العالمي. النهضة، بهذا المعنى سلسلة أطوار متراكبة، يعضدها الفكر، ويؤطرها العمل المؤسسي، ويثبتها الوعي التاريخي والجغرافي.

المرحلة الأولى: التشخيص والتحليل
البداية هي الوعي بالواقع وتشخيص أزماته. فالأمم التي تتوهم سلامة واقعها أو تخاف مواجهة حقيقتها، تبقى أسيرة الوهم. إن التشخيص يشمل:
1. تفكيك البنية الفكرية والاجتماعية: أين يقف المجتمع من وعيه بالتاريخ؟ هل يتعامل مع التراث بفاعلية أم بغربة؟
2. التحليل الجيوسياسي والاقتصادي: ما موقع الأمة من خريطة القوى العالمية؟ ما مواردها الطبيعية، وما حدودها الجغرافية، وكيف تؤثر في خياراتها الإستراتيجية؟
3. قراءة التحديات البنيوية: الأمية، الفقر، الانقسامات الطائفية، الاستبداد السياسي، التشوهات القيمية. هذه كلها حلقات في سلسلة تعطل المسار الحضاري.
التشخيص هنا يهدف لإعداد أرضية معرفية تسمح بالانتقال إلى البناء. وكما أن الطبيب لا يبدأ العلاج إلا بعد تشخيص الداء، فإن النهضة لا تنطلق إلا بوعي جذور الأزمة.

المرحلة الثانية: التأسيس الفكري والقيمي
الحضارات تقوم على رؤية كبرى للوجود والإنسان والمجتمع. القيم المؤسسة هي الضمانة ضد الانهيار عند أول منعطف. ويمكن تحديدها في:
- النسق القيمي القرآني: الذي يحدد مكانة الإنسان في الكون، ويضع له مهمة العمران، ويربط بين الإيمان والعمل الصالح.
- عالم الأفكار: الأفكار الكبرى هي مفاتيح النهضة، فهي التي تفسر الواقع وتمنح المجتمع القدرة على توجيه طاقاته.
- بناء الوعي بالزمن والتاريخ: إدراك أن الأمم التي لا تملك ذاكرة تاريخية تصبح فريسة سهلة للتكرار العقيم للأخطاء.
في هذه المرحلة، يكون العمل منصبًا على صياغة مشروع معرفي جامع، يُعيد ترتيب أولويات المجتمع، ويضبط علاقته بالتراث والدين والعالم الحديث.

المرحلة الثالثة: البناء المؤسسي والتنظيمي
لا تنهض أمة من خلال مبادرات فردية متفرقة، وإنما عبر مؤسسات قادرة على إنتاج المعرفة، وصياغة السياسات، وتوزيع الموارد بعدالة. هذه المرحلة تتضمن:
1. بناء الدولة كمنتظم: الدولة الحديثة لا تقوم على صلاح الحاكم فقط، بل على صلاح النظام الكلي الذي يضمن الاستقرار والعدالة والتداول السلمي للسلطة.
2. إنشاء مؤسسات التعليم والبحث: لأنها تمثل "مصانع المستقبل". الأمم التي أهملت التعليم غرقت في التبعية، بينما التي جعلته محورًا - كاليابان - صنعت ثورة شاملة.
2. التنظيم المجتمعي: وجود المجتمع المدني القوي يضمن ألا تبقى الدولة وحدها في ساحة العمل، بل تتساند قوى الأمة جميعها لبناء مشروع مشترك.
المؤسسات هنا منظومات فاعلة قادرة على الاستجابة للتحولات، لا بيروقراطيات جامدة. 

المرحلة الرابعة: التمكين والتأثير المجتمعي
بعد ترسيخ الأسس الفكرية والمؤسساتية، تبدأ مرحلة التمكين الداخلي، وهي تعني:
- تحقيق الكفاءة الاقتصادية: عبر تطوير الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا، وإيجاد موقع تنافسي في السوق العالمية.
- تعزيز الوحدة الوطنية: فالتشرذم الداخلي هو أكبر عائق أمام أي مشروع حضاري.
- بناء نموذج ناجح: الأمة تحتاج أن تقدم لمواطنيها تجربة حياة أرقى، تجعلهم يؤمنون بمشروعها ويحمونه.
هذا التمكين هو تراكم للموارد، وبناء الثقة الجمعية التي تتيح للمجتمع أن يخرج من حالة التبعية إلى الفاعلية.

المرحلة الخامسة: التوسع والتأثير العالمي
كل مشروع نهضوي إذا استكمل مقوماته، يتحرك نحو المجال العالمي. لكنه يفعل ذلك من موقع الشريك الفاعل لا التابع. وتشمل هذه المرحلة:
1. المساهمة في إنتاج المعرفة الكونية: كما فعلت الحضارة الإسلامية حينما صارت مركزًا للعلم.
2. التحالفات الدولية الذكية: وفق ميزان المصالح، لا وفق الانبهار بالآخر. فالمجتمعات التي أدركت الجغرافيا السياسية لعصرها - كالصين والهند - استطاعت أن توازن بين الاستفادة من الغرب والحفاظ على استقلاليتها.
3. تصدير النموذج الحضاري: بجاذبية الثقافة، وقوة الاقتصاد، ونجاعة القيم.
التوسع هنا ليس مشروع إسهام في الحضارة الإنسانية من موقع الاستقلالية والتميز.

التحديات والضمانات
كل مسار نهضوي يواجه عقبات، من أبرزها:
- الاستبداد السياسي: الذي يقطع الطريق على المبادرات الحرة.
- الانقسام الداخلي: الذي يحول المجتمع إلى كيانات متنازعة.
- التبعية الاقتصادية والفكرية: التي تجعل الأمة مجرد نسخة مشوهة عن غيرها.
أما الضمانات فهي:
- التفكير الاستراتيجي الشامل الذي يربط بين الفكر والواقع ويخطط بعيد المدى.
- المراجعة المستمرة: فالمسار النهضوي ليس خطًا مستقيمًا، وإنما يحتاج إلى تصحيح دائم.
- القيادة الواعية: التي تجمع بين الرؤية والقيم والقدرة على التنفيذ.

عملية مركبة
إن النهضة مشروع ممكن، شريطة أن تُفهم قوانينه وتُحترم سننه. خريطتها تبدأ بالتشخيص، وتمتد إلى بناء النسق القيمي، ثم المؤسسات، فالتمكين الداخلي، وصولًا إلى التأثير العالمي. غير أن هذا المسار محفوف بالتحديات، ويحتاج إلى وعي استراتيجي، وصبر تاريخي، وإيمان بأن الأمم تموت إذا فقدت الرؤية وانشغلت بالصراعات الصغيرة.
وبذلك، يصبح الطريق إلى النهضة عملية مركبة من الفكر والعمل، من الداخل والخارج، من التاريخ والجغرافيا، ومن الحلم والإرادة.