لعبة الشطرنج العالمية: قراءة جيوبولتيكية في موقع العالم الإسلامي وإمكانات النهضة الحضارية

لعبة الشطرنج العالمية: قراءة جيوبولتيكية في موقع العالم الإسلامي وإمكانات النهضة الحضارية
يشكّل الجيوبولتيك إطاراً تحليلياً لفهم ديناميكيات القوة العالمية وتفاعل الدول الكبرى ضمن شبكة معقدة من المصالح والصراعات. في كتابه العلوم التأسيسية: مدخل لفهم العصر، يقدّم د. جاسم سلطان تصوراً عميقاً للعالم المعاصر من خلال تشبيه العلاقات الدولية بلوح شطرنج تتحرك فيه القوى الكبرى وفق قواعد مرسومة وقيود جغرافية صارمة (سلطان، 2022). ينطلق هذا المقال من طرح السلطان لبحث كيف يمكن للعالم الإسلامي، بما يمتلكه من موقع استراتيجي وموارد بشرية واقتصادية، أن يعيد صياغة موقعه في النظام الدولي ويسهم في مشروع حضاري مستقبلي، وذلك من خلال معالجة الإطار النظري، الانتقال إلى الواقع، البنية المعرفية، التفاعل بين القوى، إشكالية الانقسام الداخلي، القضية الفلسطينية، والدلالات الاستراتيجية.
1. الإطار النظري: الجغرافيا بوصفها محدداً للسياسة
يؤكد سلطان أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية محايدة، بل محدد أساسي للسلوك السياسي للدول. العالم الإسلامي يقع في قلب الكتلة الأوراسية، ويتحكم في مواقع استراتيجية مثل مضيق هرمز، قناة السويس، والبحر الأحمر، ما يجعله لاعباً أساسياً على لوح الشطرنج العالمي (سلطان، 2022). هذا ما يتوافق مع طرح هالفورد ماكندر الذي عدّ "قلب العالم" (Heartland) أساساً لفهم السيطرة العالمية (MacKinder, 1904). فإذا كان قلب آسيا هو مفتاح الهيمنة في القرن العشرين، فإن وجود العالم الإسلامي على تخوم هذا القلب يمنحه قيمة مضاعفة في النظام الدولي الراهن.
2. من النظرية إلى الواقع: منهجية استقرائية لفهم القوة
ينتقد السلطان الاقتصار على التنظير المعياري، داعياً إلى اعتماد منهجية استقرائية قائمة على دراسة الحالات الواقعية وتحليل التجارب السياسية (سلطان، 2022). على سبيل المثال، التجربة التركية في العقود الأخيرة تُظهر كيف يمكن لدولة إقليمية أن تستثمر موقعها الجغرافي لتصبح جسراً بين آسيا وأوروبا، وأن توظف تحالفاتها ضمن حلف الناتو وفي الوقت نفسه تعزز انفتاحها على روسيا والصين. هذه السياسة البراغماتية تعكس انتقالاً من التنظير إلى ممارسة عملية لفن التحرك على اللوح العالمي (Dahlman, 2011).
3. البنية المعرفية: شرط النهضة الحضارية
يرى السلطان أن المعرفة الجزئية غير كافية لمواجهة تحديات العصر، وأنه لا بد من بناء ثقافة شاملة مترابطة تسمح بفهم التحولات الكبرى (سلطان، 2022). في العالم الإسلامي، يبرز مثال ماليزيا كنموذج لتبني بنية معرفية تستجيب لمتطلبات العصر، حيث استثمرت الدولة في التعليم والبحث العلمي منذ ثمانينيات القرن الماضي، مما مكّنها من تحقيق قفزات اقتصادية ومعرفية (Zainal, 2012). هذا يعكس ضرورة بناء نسق فكري ومعرفي متكامل يشكل قاعدة لأي مشروع حضاري.
4. التفاعل بين القوى الدولية: العالم الإسلامي كـ "قطع شطرنج"
يشير السلطان إلى أن الدول لا تتحرك بمعزل عن شبكة التحالفات والقيود الجغرافية، بل كقطع شطرنج تحدد حركتها وفق قواعد اللوح العالمي (سلطان، 2022). الصراع في سوريا مثال بارز؛ حيث تدخلت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، إضافة إلى قوى إقليمية مثل تركيا وإيران والسعودية، ما جعل الأزمة تتحول إلى ساحة مواجهة جيوبولتيكية متعددة المستويات (Phillips, 2016). هذا يؤكد أن موقع العالم الإسلامي في قلب الصراعات العالمية يجعله محورياً في التوازن الدولي.
5. إشكالية الانقسام الداخلي: عائق النهضة
يؤكد السلطان أن غياب الحوار بين القوى الداخلية (سياسية، دينية، ثقافية) يعيق بناء قوة داخلية متماسكة (سلطان، 2022). مثال ليبيا بعد 2011 يوضح ذلك بجلاء؛ فالصراع بين حكومتين متنافستين والاقتتال بين الفصائل أدى إلى تفكيك وحدة القرار الوطني وإضعاف قدرة الدولة على الاستفادة من موقعها الاستراتيجي وثرواتها النفطية. وفقاً لتحليل الأمم المتحدة (UN, 2021)، يشكل الانقسام الداخلي أبرز عائق أمام استقرار الدولة وإمكانية مساهمتها في النظام الدولي.
6. القضية الفلسطينية: نموذج للصراع الجيوبولتيكي
يخصص د. جاسم سلطان في مبحث لعبة الشطرنج العالمية إشارة خاصة للقضية الفلسطينية، باعتبارها من أبرز القضايا الجيوبولتيكية التي تكشف طبيعة الصراع على لوح الشطرنج العالمي (سلطان، 2022). ففلسطين ليست مجرد قضية محلية أو إقليمية، بل هي نقطة التقاء بين أبعاد جغرافية، دينية، وسياسية تجعلها محوراً لصراع ممتد منذ أكثر من قرن.
القضية الفلسطينية تعكس تداخل المصالح الدولية والإقليمية؛ إذ دعمت القوى الاستعمارية مشروع إقامة إسرائيل منذ بدايات القرن العشرين، وتواصل الولايات المتحدة والدول الغربية دعمه سياسياً وعسكرياً حتى اليوم. في المقابل، بقيت الشعوب العربية والإسلامية تعتبر فلسطين قضية مركزية، وهو ما يجعلها اختباراً حقيقياً لمدى فاعلية العالم الإسلامي في صياغة مشروع حضاري مشترك.
من منظور جيوبولتيكي، يشكل موقع فلسطين الاستراتيجي في قلب المشرق العربي عقدة مواصلات تاريخية تربط البحر المتوسط بالجزيرة العربية. السيطرة على هذا الموقع تعني امتلاك نفوذ واسع على المنطقة بأكملها (Finkelstein, 2005). لهذا، ظلّت القضية الفلسطينية أحد أعقد ملفات السياسة الدولية، إذ يتجاوز الصراع عليها حدود الفلسطينيين والإسرائيليين ليصبح ساحة مواجهة بين قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وبين قوى إقليمية مثل إيران وتركيا ومصر.
هذا التعقيد يوضح أن فهم القضية الفلسطينية يتطلب رؤية استراتيجية أوسع، تراعي موقعها في النظام الدولي، وتستوعب أن بقاء الانقسام الفلسطيني الداخلي بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس منذ عام 2007 يمثّل عاملاً إضافياً يعيق أي مشروع تحرري متكامل (International Crisis Group, 2023). إن معالجة هذه الانقسامات شرط ضروري لتحويل القضية من ملف تفاوضي متعثر إلى ركيزة لإعادة صياغة القوة العربية والإسلامية.
7. الدلالات الاستراتيجية: نحو مشروع حضاري إسلامي
ينتهي السلطان إلى أن إدراك طبيعة لوح الشطرنج العالمي شرط لفهم موقع الأمة في النظام الدولي، وأن النهضة الحضارية لا تتحقق إلا بوعي استراتيجي يربط بين النظرية والواقع، وبين الداخل والتحولات العالمية (سلطان، 2022). في هذا السياق، تبرز مبادرة الحزام والطريق الصينية كمثال واقعي، حيث تمر عبر أكثر من 30 دولة إسلامية، ما يوفر فرصة استراتيجية لإعادة تموضع العالم الإسلامي كشريك محوري في شبكة التجارة العالمية (Callahan, 2016). استثمار هذه المبادرة بوعي استراتيجي يمكن أن يسهم في انطلاقة حضارية جديدة للعالم الإسلامي.
الانتقال من التنظير إلى العمل الميداني
يؤكد تحليل لعبة الشطرنج العالمية أن الجيوبولتيك يقدم إطاراً تفسيرياً لفهم موقع العالم الإسلامي وتحدياته وإمكاناته.
- الجغرافيا تمنحه وزناً استراتيجياً.
- الانقسامات الداخلية تمثل عائقاً أساسياً.
- القضية الفلسطينية تكشف عمق التداخل بين المحلي والدولي.
- البنية المعرفية شرط لا غنى عنه للنهضة.
- التفاعل الذكي مع القوى الكبرى يحدد مكانته في النظام الدولي.
إن بناء مشروع حضاري إسلامي يتطلب الانتقال من التنظير إلى العمل الميداني، ومن التجزئة إلى التكامل، مستفيداً من موقعه الجغرافي الفريد وموارده الاقتصادية والبشرية.

المراجع

- سلطان، جاسم (2022). العلوم التأسيسية: مدخل لفهم العصر. الطبعة الثانية.
- MacKinder, H. J. (1904). The Geographical Pivot of History. The Geographical Journal.