تُعَدّ نظرية المراقبة الرقمية (Surveillance Theory) من أبرز الأدوات التحليلية لفهم المجتمع المعاصر، حيث أصبحت الحياة اليومية محاطة بأنظمة تتبّع وجمع بيانات على نطاق واسع. مع وصول عدد مستخدمي الإنترنت عالميًا إلى قرابة 6 مليارات مستخدم عام 2025، أي نحو 75٪ من سكان العالم، تتزايد كميات البيانات المنتَجة كل لحظة عبر الهواتف الذكية، ومنصّات التواصل، والتطبيقات المختلفة.
في هذا السياق، تتناول النظرية تحوّل المراقبة من كونها أداة في يد الدولة فحسب إلى منظومة رقمية شاملة تشارك فيها الشركات الكبرى والمنصّات التقنية، بحيث تصبح البيانات موردًا استراتيجيًا للضبط الاجتماعي والتوجيه السلوكي، مع آثار عميقة في مسار النهوض الحضاري لأي مجتمع.
في هذا السياق، تتناول النظرية تحوّل المراقبة من كونها أداة في يد الدولة فحسب إلى منظومة رقمية شاملة تشارك فيها الشركات الكبرى والمنصّات التقنية، بحيث تصبح البيانات موردًا استراتيجيًا للضبط الاجتماعي والتوجيه السلوكي، مع آثار عميقة في مسار النهوض الحضاري لأي مجتمع.
أولًا: الجذور النظرية لفكرة المراقبة
قدّم ميشيل فوكو في تحليله الشهير لمفهوم البانوبتيكون نموذجًا لسجن تُراقَب فيه الأجساد عبر برج مركزي، فيعيش الأفراد في حالة حضور دائم للعين الرقيبة. هذا التصوّر مثّل انتقالًا من العقاب الجسدي المباشر إلى الضبط المستمر عبر الإحساس بالمراقبة.
مع تطوّر المجتمعات الصناعية ثم الرقمية، طوّر باحثون مثل ديفيد ليون مفهوم مجتمع المراقبة (Surveillance Society)، حيث تتوزّع المراقبة عبر المؤسسات والشركات والأنظمة المعلوماتية، وتتسلّل إلى العمل، والاستهلاك، والحياة اليومية، لا إلى الشرطة والأجهزة الأمنية فقط.
مع تطوّر المجتمعات الصناعية ثم الرقمية، طوّر باحثون مثل ديفيد ليون مفهوم مجتمع المراقبة (Surveillance Society)، حيث تتوزّع المراقبة عبر المؤسسات والشركات والأنظمة المعلوماتية، وتتسلّل إلى العمل، والاستهلاك، والحياة اليومية، لا إلى الشرطة والأجهزة الأمنية فقط.
في هذا الإطار ظهر حقل دراسات المراقبة (Surveillance Studies) بوصفه تقاطعًا بين علم الاجتماع، والعلوم السياسية، ودراسات الإعلام، والقانون، يدرس كيف تُستخدم البيانات في تصنيف الأفراد وترتيبهم وفق معايير الثقة، والخطر، والقيمة الاقتصادية، وغيرها.
ثانيًا: من الدولة إلى المنصّات - صعود المراقبة الرقمية
كان التصوّر التقليدي للمراقبة يرتبط بالدولة: أجهزة أمنية، كاميرات في الفضاء العام، سجلات رسمية. أمّا اليوم، فالمشهد يشهد توسّعًا هائلًا عبر الشركات الرقمية العملاقة، لتظهر ما تصفه شوشانا زوبوف بمفهوم الرأسمالية الرقابية (Surveillance Capitalism)، أي نموذج اقتصادي يقوم على استخراج البيانات السلوكية للأفراد وتحويلها إلى مادة للتنبؤ بالسلوك والتأثير فيه من أجل الربح.
هذه النقلة تعني أنّ:
- الشركة التقنية تمتلك قاعدة بيانات أوسع من الدولة في أحيان عديدة؛
- المنصّة الرقمية قادرة على متابعة حركة الفرد داخل الفضاء الرقمي، ومع الوقت في الفضاء المادي أيضًا عبر الهواتف والتطبيقات؛
- البيانات تتحول إلى رأس مال يُباع ويُشترى، ويُستخدم في الإعلانات، والسياسة، وإدارة المخاطر، وبناء التصنيفات الاجتماعية.
فضيحة كامبريدج أناليتيكا مثّلت مثالًا صارخًا؛ حيث جرى جمع بيانات ما يصل إلى 87 مليون حساب على فيسبوك عبر تطبيق بسيط، ثم استُخدمت هذه البيانات في بناء ملفات نفسية موجهة للتأثير في الناخبين خلال الانتخابات الأميركية عام 2016، مع غرامة فرضتها هيئة التجارة الفيدرالية الأميركية على فيسبوك بقيمة 5 مليارات دولار عام 2019، ثم تسويات لاحقة مع مستخدمين ومستثمرين وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات.
هذا المثال يوضّح جوهر النظرية: البيانات الشخصية تتحول إلى أداة لتشكيل الرأي العام وتوجيه السلوك السياسي من خلف الستار.
ثالثًا: آليات الضبط السلوكي في الفضاء الرقمي
المراقبة الرقمية المعاصرة تتجاوز فكرة “المشاهدة من بعيد”، إذ تعمل عبر منظومة تقنية مركّبة، من أهم مكوّناتها:
1. الخوارزميات التنبؤية
منصّات التواصل تحلّل النقرات، ومدة التصفّح، وأنواع المحتوى المفضّل، بهدف التنبؤ بما قد يجذب المستخدم في اللحظة التالية، ثم تقترح محتوى وإعلانات تعزّز هذا السلوك. هذه العملية تولّد حلقة تغذية راجعة تعمّق ميولًا سياسية أو استهلاكية محددة.
منصّات التواصل تحلّل النقرات، ومدة التصفّح، وأنواع المحتوى المفضّل، بهدف التنبؤ بما قد يجذب المستخدم في اللحظة التالية، ثم تقترح محتوى وإعلانات تعزّز هذا السلوك. هذه العملية تولّد حلقة تغذية راجعة تعمّق ميولًا سياسية أو استهلاكية محددة.
2. التخصيص (Personalization)
المستخدم يحصل على واجهة مختلفة عن غيره: خطّ زمني خاص، وإعلانات مصمّمة، واقتراحات أصدقاء أو مجموعات تناسب توجهاته. التخصيص يمنح تجربة مريحة، لكنه في الوقت نفسه يُحاط بأسوار خفية تشبه “فقاعة الترشيح”، حيث يتعرّض الفرد لرسائل تؤكد قناعاته أكثر مما توسّع أفقه.
المستخدم يحصل على واجهة مختلفة عن غيره: خطّ زمني خاص، وإعلانات مصمّمة، واقتراحات أصدقاء أو مجموعات تناسب توجهاته. التخصيص يمنح تجربة مريحة، لكنه في الوقت نفسه يُحاط بأسوار خفية تشبه “فقاعة الترشيح”، حيث يتعرّض الفرد لرسائل تؤكد قناعاته أكثر مما توسّع أفقه.
3. الاستهداف الدقيق (Micro-targeting)
يمكن لحملات سياسية أو تجارية توجيه رسالة محددة إلى شريحة ضيّقة جدًا من المستخدمين وفق العمر، والمنطقة، والميول النفسية، والسلوك السابق. فضيحة كامبريدج أناليتيكا أبرزت كيف يمكن استخدام هذا الأسلوب لإقناع فئات مترددة أو لتثبيط فئات أخرى عن المشاركة الانتخابية.
يمكن لحملات سياسية أو تجارية توجيه رسالة محددة إلى شريحة ضيّقة جدًا من المستخدمين وفق العمر، والمنطقة، والميول النفسية، والسلوك السابق. فضيحة كامبريدج أناليتيكا أبرزت كيف يمكن استخدام هذا الأسلوب لإقناع فئات مترددة أو لتثبيط فئات أخرى عن المشاركة الانتخابية.
4. الفرز الاجتماعي (Social Sorting)
كما يوضّح ديفيد ليون، المراقبة الرقمية تؤدي إلى فرز اجتماعي، حيث تُستخدم البيانات لتحديد مدى أحقية الفرد في القروض، أو التأمين، أو السفر، أو فرص العمل، وفق نماذج تقييمية قد تتضمن تحيّزات كامنة.
كما يوضّح ديفيد ليون، المراقبة الرقمية تؤدي إلى فرز اجتماعي، حيث تُستخدم البيانات لتحديد مدى أحقية الفرد في القروض، أو التأمين، أو السفر، أو فرص العمل، وفق نماذج تقييمية قد تتضمن تحيّزات كامنة.
رابعًا: المراقبة واسعة النطاق - مثال الصين والتنظيمات الجديدة
الجدل العالمي حول المراقبة الرقمية يظهر بوضوح في التجربة الصينية؛ إذ توسّع استخدام التعرّف على الوجه، وأنظمة التتبّع في الأماكن العامة، ضمن إطار “تقييم الثقة” للأفراد في مجالات متعدّدة.
في المقابل، بدأت السلطات الصينية مؤخرًا سنّ تنظيمات تُلزم الجهات التي تستخدم تقنيات التعرّف على الوجه بتقديم بدائل للتحقّق، والحصول على موافقة واضحة، ووضع لوحات ظاهرة تنبّه إلى وجود النظام، مع ربط هذه القواعد بقانون حماية المعلومات الشخصية الصادر عام 2021.
في المقابل، بدأت السلطات الصينية مؤخرًا سنّ تنظيمات تُلزم الجهات التي تستخدم تقنيات التعرّف على الوجه بتقديم بدائل للتحقّق، والحصول على موافقة واضحة، ووضع لوحات ظاهرة تنبّه إلى وجود النظام، مع ربط هذه القواعد بقانون حماية المعلومات الشخصية الصادر عام 2021.
هذا المثال يبيّن اتجاهين متوازيين عالميًا:
- توسّع قدرات المراقبة وأجهزتها التقنية؛
- نموّ الوعي المجتمعي والحقوقي، والسعي لوضع أطر قانونية تُقيّد إساءة استخدام البيانات.
خامسًا: المراقبة الرقمية والنهوض الحضاري
أي مشروع نهوض حضاري في القرن الحادي والعشرين يتحرك داخل بيئة رقمية كثيفة المراقبة. فهم نظرية المراقبة الرقمية يصبح شرطًا لبناء نهضة تحترم الإنسان وتستثمر التكنولوجيا ضمن أطر قيمية راشدة. يمكن إبراز علاقة النظرية بالنهوض الحضاري في ثلاث نقاط رئيسية:
1. النهضة بوصفها مشروع سيادة على المعرفة والبيانات
المراقبة الرقمية تكشف أنّ من يمتلك البيانات يمتلك قدرة عالية على التأثير في الوعي والسلوك. مشروع النهوض الحضاري يحتاج إلى سياسات واضحة لـالسيادة الرقمية:
المراقبة الرقمية تكشف أنّ من يمتلك البيانات يمتلك قدرة عالية على التأثير في الوعي والسلوك. مشروع النهوض الحضاري يحتاج إلى سياسات واضحة لـالسيادة الرقمية:
- بنية تحتية وطنية آمنة للبيانات؛
- تشريعات تضمن حق الأفراد في التحكم في بياناتهم؛
- مؤسسات بحثية تدرس آثار الخوارزميات في تشكيل الرأي العام وترصد أنماط التلاعب به.
2. الكرامة الإنسانية في مواجهة التشييء الخوارزمي
الرأسمالية الرقابية تتعامل مع الإنسان بوصفه مصدرًا لـ“فائض سلوكي” يُستخرج من حياته اليومية، ثم يُستخدم للتنبؤ بسلوكه.
مشروع النهوض الحضاري يستند إلى رؤية للإنسان باعتباره كائنًا مكرّمًا، يمتلك إرادة ومعنى، لا “موردًا بياناتيًا”. هذه الرؤية تفرض:
الرأسمالية الرقابية تتعامل مع الإنسان بوصفه مصدرًا لـ“فائض سلوكي” يُستخرج من حياته اليومية، ثم يُستخدم للتنبؤ بسلوكه.
مشروع النهوض الحضاري يستند إلى رؤية للإنسان باعتباره كائنًا مكرّمًا، يمتلك إرادة ومعنى، لا “موردًا بياناتيًا”. هذه الرؤية تفرض:
- نقاشًا أخلاقيًا حول حدود التتبع المسموح؛
- تثقيفًا مجتمعيًا حول محو الأمية الرقمية، وفهم شروط الاستخدام، وأساليب حماية الخصوصية؛
- إدماج قيم العدالة والرحمة في تصميم المنصّات والأنظمة التقنية.
3. إمكانات الرقمنة لتحرير الإنسان لا إحكام السيطرة عليه
المراقبة الرقمية تمثّل خطرًا حين تُستخدم للتحكم والتوجيه الخفي، إلا أنّ الأدوات نفسها قادرة على خدمة مشروع نهضوي إذا صيغت بعقود اجتماعية عادلة، مثل:
المراقبة الرقمية تمثّل خطرًا حين تُستخدم للتحكم والتوجيه الخفي، إلا أنّ الأدوات نفسها قادرة على خدمة مشروع نهضوي إذا صيغت بعقود اجتماعية عادلة، مثل:
- استخدام البيانات المفتوحة لخدمة البحث العلمي والسياسات الاجتماعية؛
- بناء منصّات تعليمية ومجتمعات معرفة تعزّز المشاركة الواعية بدل الاستهلاك السلبي؛
- تطوير نماذج حوكمة تشاركية للبيانات تشرك المجتمع المدني والجامعات والقطاع الخاص في وضع المعايير.
بهذا المعنى، النظرية لا تقتصر على تحذير من مخاطر المراقبة؛ بل تساعد على تخيّل بنية حضارية رقمية تُوظَّف فيها المراقبة لصالح الأمن العام، والصحة، والتنظيم، ضمن حدود حقوقية وأخلاقية صارمة.
منظومة خوارزميات وشبكات بيانات
نظرية المراقبة الرقمية تقدّم عدسة تحليلية حادّة لفهم التحوّلات العميقة في المجتمعات المعاصرة. المراقبة لم تعد مجرّد كاميرا فوق رأس الفرد في الشارع، بل منظومة خوارزميات وشبكات بيانات تلاحقه في العمل، والاستهلاك، والتعلّم، والمشاركة السياسية.
تحدّي النهوض الحضاري في زمن الرقمنة يرتبط بقدرة المجتمعات على:
تحدّي النهوض الحضاري في زمن الرقمنة يرتبط بقدرة المجتمعات على:
- تشخيص أنماط المراقبة وأنواعها؛
- تطوير تشريعات ومؤسسات تحمي الكرامة والحرية؛
- تحويل التكنولوجيا من أداة هيمنة خفية إلى رافعة للوعي، وعدسة لقراءة الواقع، ومحرك لمشاريع إصلاحية عادلة.
بهذا الفهم تتحول نظرية المراقبة الرقمية من تحذير سوداوي إلى عنصر تأسيسي في رؤية حضارية تريد أن تعيش العصر الرقمي بوعي، لا بخضوع غير واعٍ لمن يملك مفاتيح البيانات والخوارزميات.
المراجع المختارة
-
David Lyon, The Electronic Eye: The Rise of Surveillance Society, University of Minnesota Press, 1994. JSTOR
-
David Lyon, Surveillance as Social Sorting: Privacy, Risk, and Digital Discrimination, Routledge, 2003. doc(k)s
-
David Murakami Wood, “The ‘Surveillance Society’: Questions of History, Place and Culture”, 2007. ResearchGate
-
Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism, PublicAffairs, 2019، مع مراجعات حديثة. we.riseup.net+1
-
International Telecommunication Union (ITU), Facts and Figures 2025: Global Internet Use. TV Tech
-
Reports on the Facebook–Cambridge Analytica data scandal, including The Guardian (2018) وملفّات الدعاوى والغرامات اللاحقة ضد شركة Meta. News.com.au+3Wikipedia+3Reuters+3
-
Cyberspace Administration of China regulations on facial recognition and personal information protection (2021–2025). Reuters