في ظل مرحلة تتكاثف فيها المشاريع وتتعدد المبادرات تحقيقاً لأثر نهضويّ ملموس، كثيراً ما يغيب "الإنسان بأعماقه" -رغم محوريّته- عن دائرة التركيز، لاسيما كمعيار صحة وسلامة للنتاج الحضاري؛ إذ لا يقوم بناءٌ أو تقدّمٌ سليم إلا على إنسان سليم امتلأ في أعماقه فكراً ونضجاً ووعياً وعافية.
ورغم الأهمية المفصليّة للبناء الفكري والمهاريّ للإنسان، إلا أن البناء النفسي يتفوّق قرآنياً على سائر الجوانب الأخرى باعتباره الجذر الأعمق والركيزة الأمتن التي يصفو من خلالها الدافع، ويستقيم غذاء الفكر، وتتسدد بوصلة الأداء.
التجانس بين نضج البناء النفسي للإنسان ونضج مسعاه الحضاري
تختلف الرؤية القرآنية للنهضة عن الطروحات البشرية السائدة؛ إذ لا ترى الإنسان مجرّد فاعلٍ متقن في مشروع البناء الحضاري، بل "تعتبره المقصود الأول من هذا الحراك"؛ فكل سعي حضاري يبذله الإنسان هو انعكاس مباشر لنضجٍ داخلي يحدث في "معمل النهضة" الكامن في أعماقه. حيث يجانس القرآن بلا فجوة أو انقطاع بنيان الإنسان الداخلي مع بنائِهِ وبذله الخارجي فيعتبرهما شيئاً واحداً: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...}[التوبة: 109].
مذمومية النهوض الناتج عن ذوات سقيمة
ويذمّ القرآن الكريم كل عمران لا يصدر عن إنسان راشد سليم النضج والدوافع، معتبراً إياه ضرباً من العبث: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128]، أو نتاجاً لدوافع ذاتية مشوّهة كالرغبة في تحقُّق هيمنة النفوس وخلودها: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]، ويُحذّر من أثره الموحش العائد على المؤدّي قبل المؤدَّى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110].
وفي المقابل يعرض القرآن نماذج لشخصيات راشدة قادت أو أسهمت بمشاريع كبرى، وكان عمادُ نجاحها: صفاءُ أعماقها، ونقاءُ وعيها، واستقامةُ دافعها، وصدقُ توكلها، وتحرّرها من تضخم الذات والهوى.
فالقرآن لا يكتفي بإبراز النتائج، بل يؤسس لمنظومة متكاملة في بناء الإنسان، تتخللها مراحل وأحوال نهوضيّة دقيقة، مؤكداً أن النهضة الحقيقية لا تكون إلا بإنسان خضع لتربية داخلية متدرجة، سبرت أغوار نفسه، وأعادت تشكيل وعيه ومقاصده، ليكون حراكه الحضاري امتداداً لسلامة الداخل لا غطاءٍ لخلله.
حالة التقوى كمفصل في مسعى النهوض
ليست التقوى مجرّد شعور خفي أو عبادة سكونيّة، بل منظومة يقظة ومُساءَلة ومراجعة متّقدة دائمة، تكبر مع السائر السويّ؛ فهي حالة تيقّظ تجعل الإنسان متنبهاً لدوافعه، واعياً لما يصدر عنه، مراجِعاً لكل خطوة قبل أن يخطوها، ومسؤولاً عن كل بذل وأداء ونفع؛ فهي حالة رقابة دقيقة تراجع كل فعل بميزان الصدق والإحسان.
فالمؤمن الحق الذي يحمل مشروعاً نافعاً لا يتحرك بدافع الإنجاز الظاهري وحده، بل بقلبٍ حيّ يُسائِل ذاته باستمرار: من أين خرج هذا الفعل؟ وإلى أين يتجه؟ وما مدى صدقه وإحسان إعداده؟
وهذه الحالة هي التي جعلت قصة ابنَيّ آدم شاهدة خالدة عبر الأزمان، تُمايِز بين نوعَي أداء للبشرية أحدهما مقبول وآخر غير متقبَّل ولا مقبول {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة: 27]، فرغم أن الفعل الظاهريّ واحد، ولكن حظي بالقبول من يعايش منظومة التيقّظ الداخلية {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، فغاب الجوهر الذي حوّل المسعى النبيل إلى صراع أخوي تتبارى فيه النفوس وتقتتل!
فالنهضة في ميزان السماء ليست فقط حركة عمرانية أو إصلاحاً بيئياً واجتماعياً، بل علاجاً لذات النفس المؤدّية، ونضجاً لمدخلاتها وترقية لوعيها وإخلاصها.
فمهما تنوعت المشاريع، وتكاثفت الأفعال، وتزيّنت الساحات بضجيج "الإنجاز"، فإن أي أداء لا ينبع من ذات زكيّة، هو نهوض قاصر، قد يجرّ المساعي النهضويّة نحو حراك زائف الجوهر، تتصارع فيه النفوس نحو التضخم والظهور لا نحو وعي رباني لنضجها وزكاتها أولاً، ثم أداء دورها ومسؤوليّاتها ثانياً، فـ {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]!
ليبقى هذا المعيار العظيم هو المعيار المفصلي الأساس بين المساعي النهضوية التي تأسست وتربّت على سنن خالق الوجود ومنهجه، وبين المساعي النهضوية الأخرى في حضارات إنسانية ناجحة في ظاهرها فاقدة في عمقها لجوهر الإنسان.