آلية تفعيل القيم في المجال العام

آلية تفعيل القيم في المجال العام
آلية تفعيل القيم في المجال العام تعني أن تتحوّل القيم من شعارات معلَّقة إلى سلوك يومي في السياسات، والإعلام، والمؤسسات، والشارع. 
الفكرة الجوهرية: القيمة تبدأ فكرة في الوعي، ثم تتحوّل إلى معيار للحكم، ثم تتحول إلى قانون وإجراء، ثم تصبح عادة عامة يشعر الناس أنّها “الطبيعي”.

1) تحديد القيم الحاكمة بشكل واضح ومشترك
- المجال العام يحتاج مجموعة قيم مرجعية متوافق عليها نسبيًا: الكرامة الإنسانية، العدل، الشفافية، الإتقان، الرحمة، المشاركة، إلى آخره.
- الفكرة: كلما كانت القيم محددة بعبارات بسيطة ومفهومة للجمهور، سهل تحويلها إلى معايير للسلوك والقرار.
- مثال: دول كثيرة تعتمد “مواثيق وطنية” تضع في مقدمتها قيمًا مركزية مثل: احترام الإنسان، النزاهة، خدمة المجتمع. هذه المواثيق تُستخدم في التعليم والإعلام والخطاب الرسمي، فيتكوّن مع الزمن شعور عام بأن هذه القيم تشكّل “القاعدة” التي يُقاس عليها كل شيء.

2) ترجمة القيم إلى قوانين ولوائح وإجراءات
- القيمة تبقى مجرّدة ما دام حضورها محصورًا في الخطب والكتابات. التفعيل يبدأ عندما تتحوّل القيمة إلى نص قانوني أو لائحة مؤسسية أو إجراء عملي.
- الفكرة: 
* العدل مثلًا يتحوّل إلى: قوانين واضحة للمناقصات، آليات للتظلّم، هيئات رقابة مستقلة. 
* الكرامة تتحوّل إلى: أنظمة تمنع الإهانة في أماكن الخدمة العامة، تدريب ملزم للموظفين على أسلوب التعامل.
- مثال: حين تعتمد دولة هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، وتُعطيها صلاحيات حقيقية، تصبح قيمة “النزاهة” جزءًا من بنية القرار العام، لا مجرد وعظ.

3) القدوة في النخبة والقيادات
- القيمة في المجال العام تحتاج “وجوهًا حاملة لها”. سلوك القادة، والعلماء، والإعلاميين، والناشطين، يقدّم نموذجًا حيًا يختصر آلاف الخطب.
- الفكرة: حين يرى الناس مسؤولًا كبيرًا يلتزم بالصف، ويحترم وقت المراجعين، ويُقرّ بخطئه عند الحاجة، تتجسّد قيمة الكرامة والشفافية في مشهد واحد، فيتعلّم المجتمع من الفعل أكثر من الكلام.
- مثال: قادة سياسيون أو رؤساء بلديات في تجارب معاصرة يركبون وسائل النقل العامة، ويظهرون في طوابير عادية، فتترسّخ صورة ذهنية مرتبطة بقيمة المساواة واحترام الناس.

4) إدماج القيم في التعليم والإعلام بوصفها “لغة يومية”
- التعليم والإعلام هما المصنع الأكبر للخيال الجمعي. تفعيل القيم يقتضي حضورها في المناهج، والقصص، والمسلسلات، وحملات التوعية.
- الفكرة: القيمة تُقدَّم في صورة قصة، فيلم قصير، مثال حياتي، نقاش في الصف، مشروع تطوعي مدرسي، لا في تعريف نظري جاف فقط.
- مثال: برامج مدرسية تعتمد “مشروعات خدمة المجتمع” كجزء من النجاح الدراسي، فيتعلّم الطلاب قيمة العطاء والالتزام بالمصلحة العامة من خلال تجربة مباشرة في الأحياء الفقيرة أو البيئة الطبيعية.

5) تصميم حوافز تشجّع السلوك القيمي
- السلوك القيمي يحتاج بيئة تسمح له بالانتشار. وجود حوافز من نوع: جوائز، اعتراف اجتماعي، فرص ترقّي، يزيد حضور القيم في الواقع.
- الفكرة: عندما تمنح مؤسسة جوائز سنوية لأكثر الموظفين التزامًا بخدمة الناس، وأعلى فرق عمل في روح التعاون، يتعزز شعور بأن القيم “مربحة” على مستوى المعنى وعلى مستوى المسار المهني.
- مثال: جوائز “الموظف القدوة” أو “المدرس الملهم” أو “المبادر المجتمعي” التي تُنقل قصصها عبر الإعلام، فتتحوّل إلى نموذج يتمنى كثيرون الاقتراب منه.

6) خلق مساحات مشاركة مفتوحة للجمهور
- القيم تتغذّى بالحوار والمشاركة. حين يجد الناس منصّات يعبّرون فيها عن رأيهم، ويشاركون في صياغة أولويات المدينة أو المدرسة أو الحي، تتفعّل قيم: الشورى، المسؤولية، الانتماء.
- الفكرة: مجالس أحياء، منصّات إلكترونية للاستطلاع، جلسات استماع عامة، منتديات شبابية… جميعها أدوات تجعل المواطن جزءًا من صنع القرار، لا مجرّد متلقٍّ لقرارات مكتملة.
- مثال: بلديات تستقبل اقتراحات الناس بخصوص تصميم الحدائق أو تنظيم المرور، ثم تُظهر في الإعلام كيف أثّرت هذه الاقتراحات فعليًا في القرار. هذا يرسّخ قيمة المشاركة والاحترام المتبادل.

7) تحويل القيم إلى سلوك يومي داخل مؤسسات الخدمة
- المدرسة، المستشفى، الدائرة الرسمية، مركز الشرطة، الجامعة… هذه هي “الواجهة اليومية” للدولة في عين المواطن.
- الفكرة: حين تُدرَّب فرق العمل في هذه المؤسسات على آداب الاستقبال، وضبط الوعود الزمنية، والحرص على وقت المراجعين، يظهر أثر القيم في تفاصيل صغيرة: ابتسامة، توضيح، اعتذار، التزام بالدور، لغة محترمة.
- مثال: مستشفى يعتمد “ميثاقًا للمرضى” يتضمن بنودًا حول الاحترام، وحق الاستفسار، ووضوح المعلومات، إضافة إلى متابعة يومية لمدى الالتزام بهذا الميثاق من خلال استبيانات بسيطة عند خروج المريض.

8) تثبيت القيم خلال الأزمات والشدائد
- اختبار القيم الحقيقي يظهر في أزمنة الكوارث، والأزمات الاقتصادية، والاضطرابات السياسية.
- الفكرة: حين يلتزم الإعلام بعدم بث خطاب كراهية في أوقات التوتر، وحين تُدار المساعدات وفق معايير العدالة لا المحسوبية، يتأكد الناس أنّ القيم المعتمدة ثابتة وليست موسمية.
- مثال: خلال جائحة صحية عالمية، اعتمدت بعض الدول حملات إعلامية تركز على التضامن، وحماية كبار السن، واحترام جهود العاملين في القطاع الطبي، وظهرت مبادرات شبابية لتوصيل الطعام والدواء للفئات الأضعف. بهذه الخطوات يجري تثبيت قيم الرحمة والتكافل والمسؤولية.

9) قياس أثر تفعيل القيم ومراجعته دوريًا
- القيم في المجال العام تحتاج أدوات قياس: استطلاعات رأي، مؤشرات ثقة في المؤسسات، دراسات حول السلوكيات اليومية (الالتزام بالقانون، نسب التطوع، مستوى العنف).
- الفكرة: عندما تُربط الخطط الحكومية بمؤشرات قيمية، مثل؛ مستوى شعور الناس بالكرامة في المؤسسات العامة، أو شعور الطلاب بالأمان في المدارس، يمكن تقييم مدى نجاح تفعيل القيم وتعديل السياسات بناءً على ذلك.
- مثال: بعض المدن تعتمد “مؤشر جودة الحياة” يتضمن عناصر مرتبطة بالاحترام في الشارع، والأمان، وإمكانية الوصول للخدمات، فيُستخدم المؤشر أساسًا لتحسين السياسات.

10) تراكم التجربة وتحويلها إلى ذاكرة عامة
- مع الزمن تتراكم أمثلة النجاح والفشل في تفعيل القيم. تُوثَّق القصص، وتُدرس في الجامعات، وتُعرض في الإعلام، ويُعاد استخدامها في تدريب الأجيال الجديدة.
- الفكرة: تتحول القيم إلى جزء من “الذاكرة الوطنية”؛ قصص قضاة عادلين، أطباء أوفياء، معلمين مخلصين، مبادرات شبابية… جميعها مواد لصناعة خيال حضاري جديد.
- مثال: إنتاج أفلام ومسلسلات ووثائقيات عن شخصيات عامة جسّدت قيمًا رفيعة، وعرض هذه الأعمال في المدارس والمنصّات الرقمية، فينشأ شعور عام بأن هذه النماذج تمثّل “الصورة الطبيعية” التي يُستحسن الاقتراب منها.