القيادة السننية كمنظومة عمران
لا تُمثّل القيادة الواعية بالسنن الحضارية مجرد نمط إداري متطور، بل هي استبصار بالقوانين الحاكمة لحركة التاريخ والاجتماع البشري. إن السنن الحضارية ليست مفاهيم متجاورة، بل هي منظومة مترابطة من القوانين الكونية والاجتماعية التي تربط المقدمات بالنتائج في مسار بناء الأمم والمؤسسات. تأهيل القائد في هذا السياق يعني نقله من "الإدارة الإجرائية" إلى "الريادة السننية" التي تدرك مآلات الأفعال وتتعامل مع الواقع كمدخلات تخضع لقوانين ثابتة لا تحابي أحداً.
ما المقصود بالسنن الحضارية في هذا السياق؟
نقصد بها قوانين الاجتماع البشري (آليات النهوض والسقوط)، وعلاقات العلية (السبب والنتيجة) في العمران، وآليات التغيير التاريخي التي تؤكد أن النجاح ليس صدفة، بل هو ثمرة التوافق مع مراد السنن الكونية والشرعية.
1. ترسيخ "الوعي السنني" الكلي
الأساس السنني: تقوم هذه الخطوة على سنة "الاطراد" (الثبات والاستمرارية في القوانين الكونية). يتم تأهيل القائد لإدراك أن الكون والاجتماع الإنساني يسيران وفق نظام صارم، مما يخرجه من عشوائية التفكير إلى انضباط التحليل.
- تطبيق واقعي: دراسة "دورة حياة المؤسسات" كمنعكس لـ "عمر الدول" عند ابن خلدون. القائد الذي يفهم أن "الترف والجمود" يؤديان حتماً إلى الانهيار، سيفعل أدوات الرقابة والابتكار قبل وصول مؤسسته لمرحلة الهرم.
2. فقه "السببية" ومدافعة السنن بالسنن
الأساس السنني: تقوم هذه الخطوة على سنة "العلية" (ربط النتائج بمقدماتها). يُدرب القائد على أن الأماني لا تصنع واقعاً، وأن مدافعة القدر بالقدر (سنة بسنة) هي جوهر العمل الحضاري.
- تطبيق واقعي: تجربة "مهاتير محمد" في ماليزيا؛ حيث لم يواجه الفقر بالشعارات، بل عالج "الأسباب" عبر الاستثمار في التعليم التقني، مدركاً أن النهضة الاقتصادية هي النتيجة الحتمية لمقدمة الإعداد البشري.
3. بلورة "الرؤية المقاصدية" للقيادة
الأساس السنني: ترتبط بـ سنة "الغاية من الاستخلاف". يتم نقل القائد من الغرق في "الوسائل" (الربح، التوسع) إلى إدراك "المقاصد" (النفع، الاستدامة، عمارة الأرض).
- تطبيق واقعي: شركة "تسلا" و"سبيس إكس"؛ الربط الصريح بين المنجز التقني ومقصد "حماية الجنس البشري وتوفير طاقة نظيفة". هذا الربط يُحوّل الموظف من "ترس" إلى "شريك حضاري".
4. هندسة "التدرج الحضاري"
الأساس السنني: تقوم على سنة "الزمان" (النمو العضوي وليس الطفرات الوهمية). تأهيل القائد على احترام المراحل الزمنية اللازمة للنضج، وتجنب "حرق المراحل" الذي يُفضي إلى الانتكاس.
- تطبيق واقعي: نهضة "سنغافورة"؛ حيث التزم لي كوان يو بتدرج صارم بدأ بالانضباط الاجتماعي، ثم التعليم، ثم التكنولوجيا، مجسداً حقيقة أن القفز فوق سنن التطور يُنتج هياكل هشة.
5. إدارة "التدافع" وتحويله إلى تكامل
الأساس السنني: تقوم على سنة "التدافع" (حتمية الاختلاف والمنافسة لضمان حيوية الحياة). يتم تدريب القائد على أن الصراع ليس شراً مطلقاً، بل هو طاقة كامنة يجب إدارتها لإنتاج التطور ومنع الفساد.
- تطبيق واقعي: "نظم الحوكمة وفصل السلطات" في المؤسسات الكبرى؛ حيث يُخلق تدافعاً إيجابياً بين الإدارة التنفيذية ومجلس الإدارة، مما يمنع تفرد القائد بالقرار ويضمن جودة المخرج.
6. الموازنة بين "القيم الأخلاقية" و"المنجز المادي"
الأساس السنني: تقوم على سنة "الهلاك الأخلاقي" (الارتباط الشرطي بين زوال النعم وفساد الأخلاق). تأهيل القائد ليفهم أن رأس المال الأخلاقي هو الضمانة الوحيدة لاستمرار النمو المادي.
- تطبيق واقعي: سقوط شركة "إنرون" (Enron)؛ حيث كان المنجز المادي ضخماً لكنه افتقر لسنة "الأمانة"، مما أدى لانهيار المنظومة بالكامل، مبرهناً على أن الخلل الأخلاقي هو ثقب أسود يبتلع المنجزات المادية.
7. الاستشراف المستقبلي عبر "فقه المآلات"
الأساس السنني: ترتبط بـ سنة "التحول والتغير". تأهيل القائد لقراءة بذور المستقبل في تفاعلات الحاضر، بناءً على تكرار الأنماط السننية.
- تطبيق واقعي: القادة الذين استشرفوا "التحول الرقمي" في التسعينات؛ قرأوا سنة "تطور أدوات الإنتاج" فكيفوا مؤسساتهم قبل وقوع الأزمة، مما جعلهم يقودون السوق بدلاً من الانقراض مع "نوكيا" و"كوداك".
8. تفعيل "الشورى" والمسؤولية الجماعية
الأساس السنني: تقوم على سنة "التراكم المعرفي" و"نفي التفرد". تأهيل القائد ليكون مركز ثقل للفريق لا مصدر السلطة الوحيد، إدراكاً بأن العقل الجمعي أقرب لإصابة السنة من العقل الفردي.
- تطبيق واقعي: "نموذج القيادة الموزعة" في شركات التكنولوجيا الناشئة (Agile Management)؛ حيث تذوب المركزية لصالح فرق العمل، مما يُسرع من وثيرة الاستجابة لسنن السوق المتغيرة.
9. المرونة في مواجهة "سنة التداول"
الأساس السنني: تقوم على سنة "تداول الأيام" (تقلب القوة والضعف واليسر والعسر). يتم تدريب القائد على "إدارة الأزمات" كجزء أصيل من السنن، وليس كحدث طارئ، مما يعزز الصلابة النفسية والعملية.
- تطبيق واقعي: استراتيجيات "الاستجابة للجائحة" (COVID-19)؛ المؤسسات الواعية بسنة التداول لم تنهر، بل استخدمت الأزمة لإعادة ابتكار نماذج عملها، محولةً المحنة إلى منحة تطويرية.
10. التزكية والرقابة على "الأنا" القيادية
الأساس السنني: تقوم على سنة "التغيير النفسي" (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). هذه هي الذروة التشغيلية للتأهيل؛ حيث يُربط نجاح القائد الخارجي بصلاحه الداخلي.
- تطبيق واقعي (إجرائي): إدماج "جلسات المراجعة الأخلاقية" (Ethical Audits) والتعيين الإلزامي لـ "مرشد سلوكي" (Coach) للقادة الكبار، لضمان عدم طغيان "الأنا" التي قد تعمي القائد عن رؤية السنن وتجعله يتوهم أنه فوق القانون.