"وهذا خطير جداً، يعني قد نجد بعض الأبناء الذين يتابعون هذا المحتوى؛ هو لا يقوم بذلك الفعل ولكن يطبّع معه، يعني يتعاطف مع القاتل، أحياناً يتعاطف مع ذلك الذي يتناول المخدرات، يتعاطف مع ذلك الذي يمارس المثلية أو الشذوذ ويراه حقاً من حقه. وهذا خطر، يعني في عقيدتنا الإسلامية الحرام حرام ولا يجب الخلط، يعني لا نتعاطف مع هؤلاء الأشخاص بهذا المعنى.
طفل الآن نقول له: 'تعال أشرح لك إعراب الجمل في اللغة العربية'، ونقول له: 'اختر محتوى يناسبك'، ماذا سيختار؟ سيختار: 'كيف تفهم الإعراب في خمس دقائق'. الذي يختار درساً مدته ساعتين يعني حتى 'أونلاين'؛ لما نتكلم على البودكاست، فئة قليلة هي التي تشاهد البودكاست مقابلة مع 'الريلز' (Reels) التي مدة مقاطعها قصيرة.
نعم، كان للطفل البيئة الآمنة -إن صح التعبير- يلعب فيها؛ كنا نلعب بالتراب، نأكل التراب، كان هناك تواصل مع الجدات ومع الأمهات يحكين لنا قصص زمان. كنا حقيقة نحس أن هناك تواصلاً بيننا وبين أمهاتنا وحتى جداتنا. كان هناك أيضاً لعب لهذا الطفل، يخرج للشارع مع أقرانه، كانت أيضاً هناك مواد ممكن نصنع بها لُعباً وما إلى غير ذلك، فكان لها تأثير حقيقة على نفسية الطفل، أي تأثير إيجابي. أنا أقول لو قلنا إنه مقارنة بما هو موجود اليوم في الشاشات، فكيف ممكن نفصل الأمر أو نفسره؟
إذاً، البيئة الوالدية لم توفر هذه الأمور التي هي: الحب، الأمان، الاجتماعية، المدح، التشجيع.. كذا، فالطفل سيبحث عنها في مكان آخر. من أكثر أسباب الإدمان التي لا يدركها الآباء والأمهات هي الهروب من البيئة الوالدية، سواء لأن هذه البيئة الوالدية فيها عنف، أو فيها سوء معاملة، أو فيها إهمال أحياناً؛ يعني ليس من الضروري أن يكون سوء معاملة بالمعنى الذي نفهمه، أحياناً مجرد إهمال.
في هذا الزمن لم تعد الشاشة مجرد جهاز، بل أصبحت عالماً كاملاً يدخل إلى بيوتنا بدون استئذان ويجلس مع أطفالنا أكثر مما نجلس معهم نحن. عالم يفتح أبواباً واسعة، بعضها ظلام وبعضها نور. وفي وسط هذا الضجيج الرقمي يبقى السؤال مطروحاً: كيف نحمي أبناءنا دون أن نحبسهم؟ وكيف نمكنهم دون أن نخسرهم؟
اليوم، بحول الله تعالى، نستضيف الاستشارية التربوية والأسرية والأكاديمية المهندسة الأستاذة عبير بومحمد. أهلاً وسهلاً بكِ أستاذة.
مرحباً أستاذة، وشكراً على هذه الاستضافة.
أهلاً بكِ. اليوم سيكون موضوعنا جداً مهم ونحن نعيش في عالم رقمي، وأطفالنا هم عرضة لهذه الشاشات. نفتح حديثنا حول الخطر في البيئة الرقمية وضرورة الوعي. لما نقول إن الطفل يعيش في الشاشة أكثر من الواقع، فما هي التغيرات التي ستطرأ على هذا الطفل؟ وما هي المخاطر التي تحدق به؟
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛ ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. الخطر الكامن في الشاشات أو في المحتوى الرقمي لا أحد ينكره ولا أحد يمكنه أن ينفي وجوده، وحتى الآباء الذين يتركون أبناءهم مع الشاشات طوال اليوم لا ينكرون وجود هذا الخطر. نحن ننطلق من منطلق واجبات المربي؛ من واجبات المربي حماية ابنه من الخطر. الآن الابن الرضيع لو نراه، الأم تقوم بإرضاعه، لكن بعد ذلك سوف نرى أن مهمتها الأساسية حمايته من الخطر؛ الأخطار الموجودة في بيئته، في محيطه، في البيت، الكهرباء، المواد الضارة، السقوط مثلاً.
إذاً، في هذا الزمن يجب أن نعي بأن هناك خطراً جديداً ظهر لم يكن موجوداً في الماضي؛ هذا الخطر هو المحتوى الرقمي. إذاً، يجب على الآباء أن يدركوا وجود هذا الخطر بداية، وما هو هذا الخطر؟ وكيف يؤثر على أبنائهم؟ وكيف يحمي الطفل من هذا الخطر؟
الخطر هنا نقسمه إلى قسمين:
الخطر الأول: هو الخطر الكامن على الدماغ وعلى التفكير وعلى الأداء بصفة عامة، وهو خطر نشترك فيه مع الإنسانية جمعاء. الآن الأبحاث الغربية موجودة حول تأثير الشاشات على الدماغ، وهذا الخطر هو الأكثر انتشاراً ويفهمه الكثيرون.
الخطر الثاني: هو الخطر الذي نختص به نحن كأمة إسلامية، وهو ربما الخطر الذي لا يدركه الكثيرون؛ وهو الخطر على الهوية الإسلامية، وعلى التكوين الثقافي واللغوي للأبناء، وعلى منظومة القيم التي يتم جرها نحو 'السيولة'. وإن شاء الله يكون هذا موضوع حديثنا اليوم.
نعم، ذكرتِ نقطة جداً مهمة وهي الخطر على الهوية. الطفل اليوم أصبح عرضة لمحتويات رقمية، غير منتبه إليها من طرف الوالدين؛ فكيف يتسلل هذا الخطر أستاذة؟ ممكن أكثر شرح وتفاصيل؟
نعم، الطفل هو في مرحلة تكوين الإنسان، ومرحلة الطفولة المتأخرة أو حتى مراهقته هو ما زال في مرحلة تكوين. لما نقول مرحلة تكوين، نحن الآن لسنا فقط في النمو الجسدي الذي هو ظاهر للعيان، ولكن أيضاً لدينا النمو الفكري، والنمو الأخلاقي، وتكوين المفاهيم. يعني لما نقول تكوين المفاهيم مثلاً: ما هو مفهوم النجاح؟ ما هو مفهوم الفلاح؟ ما هو مفهوم الصدق؟ ما هو مفهوم الكذب؟ وأيضاً هي مرحلة تكوين الهوية: من أنا؟ من أكون؟ لماذا أنا هنا؟ ما هي نقاط قوتي ونقاط ضعفي؟
في هذه المرحلة، الابن يطرح أسئلة ويجيب عنها، أو يتلقى إجابات. الآن ما يجب أن ندركه هو أن الأسئلة والإجابات هي من خلال المدخلات في بيئة الطفل؛ ماذا نقصد بالمدخلات؟ معناها كل ما يحيط به. إذا كان الطفل رأى هذا الكوب مثلاً وقام بالشرب، فلأنه رأى مدخلات أدت إلى استنتاج أن هذا الكوب يُستخدم للشرب.
المدخلات قديماً كانت مدخلات بيئة محضة، معناها بيئة حقيقية؛ يجد في بيئته الأب، الأم، أو أفراد العائلة الذين ينتمون إلى نفس البيئة الثقافية واللغوية والهوية نفسها. الآن صارت الشاشة المدخل الأول في حياة بعض الأطفال، وفي حياة البعض هي المدخل الرئيسي، ولا يوجد مدخل من الآباء والأمهات. مثلاً، مرة التقيتُ بأم تنصح بأن تعليم الطفل التخلص من 'الحفاض' يكون عن طريق فيديو عبر الشاشة! وهي أين دورها؟ أين دور الأم؟ نحن لما نتكلم عن الحفاض، نتكلم عن طفل عمره سنتين؛ كيف في هذا العمر نسلم الطفل إلى مدخلات خارجية غريبة عن بيئتنا في موضوع مهم كالطهارة مثلاً؟
إذاً، ما الذي يحدث الآن هو أن الطفل يتلقى مدخلات من بيئة خارجية تماماً، مختلفة عنه فكرياً، دينياً، ثقافياً ولغوياً، أهدافها مختلفة، وسلبياتها أكثر من إيجابياتها. وهنا ما يجب أن يدركه الآباء والأمهات هو أنه لو أحضرنا طفلاً وشخصاً بالغاً وأعطيناهما نفس المحتوى، الضرر على الطفل سيكون أكبر؛ لأن هذا الطفل لم يكوّن مفاهيم من قبل، ليست لديه بيئة صلبة أو أرضية صلبة يقف عليها، وليست لديه أفكار سابقة؛ منظومة القيم عنده لم تتكون بعد، حتى الحلال والحرام هو لا يفرق بينهما، لا يفرق بين الصح والخطأ. وإذا استقبل الخطأ أولاً قبل أن يستقبل الصح، ستكون كارثة.
فعلاً، الأمر خطير جداً. والأمهات اليوم -وأنتِ استشارية تربوية تأتيكِ الكثير من الاستفسارات- كيف تسلم الأم طفلها (عام أو سنتين) هذه الشاشة وهي لا تدرك المخاطر؟ هل حقيقةً هذا الأمر سيؤثر بشكل مباشر على الطفل بحيث يكون لديه تصورات ومعتقدات دينية تؤثر على تربيته، حتى لو استدركت الأم فيما بعد وأدخلته روضة أو مدرسة؟
ما يجب أن نعرفه أن الدماغ البشري لا يقبل الفراغ، وأصعب معلومة هي التي نتلقاها أولاً؛ من الصعب جداً أن نغير المعلومة الأولى أو الفكرة الأولى. هناك من يقول إن تصحيح فكرة 'مُسلّم بها' بأنها صحيحة يأخذ وقتاً أطول، وربما يكون مستحيلاً أكثر من تصحيح فكرة صحيحة. تخيلي شخصاً تعوّد أن يلحن في اللغة العربية ويخطئ في إعراب الفاعل فينصبه، هل تظنين أنه سيكون سهلاً إقناعه بأن الفاعل مرفوع؟ سيخطئ حتى لو أعطيته كل الأدلة، لكن لو أنه منذ البداية أخذ قاعدة صحيحة بأن الفاعل يُرفع، سيكون الأمر سهلاً عليه.
المشكلة هي أننا نسلم الشاشات للطفل في مرحلة هو أحوج ما يكون فيها إلى تكوين المفاهيم. الشاشات تقدم نموذجاً في السلوكيات؛ بعض الرسوم المتحركة تشجع على العنف، وأحياناً على التمرد على الوالدين. انظري لصورة الطفل في الإعلانات، كثيراً ما يُقدم على أن 'البطل' هو الذي يتمرد على والديه ويسخر من كلام أبيه. إذا جلست الأم مع ابنها وسلمت له هذا المحتوى وضحكت، فهو يسجل هذا كإعجاب بالمحتوى ويخزن كل شيء، وكتسليم بهذا السلوك.
الطفل في طفولته لديه مشكلة 'التماهي' مع ما يرى من نماذج؛ سلوكه الأول هو التقليد. صلي أمام طفلك، سيقوم ويحاول تقليدك. قولي كلاماً جميلاً، سيحاول تقليدك. وقولي كلاماً سيئاً، وسيقلدك أيضاً. إذاً، هذا التقليد يجعل الابن متلقياً للنماذج، هو لا يصنع سلوكاً من العدم. هذه الفكرة يجب أن تكون عند الأمهات اللاتي يستهنَّ بذلك ظناً أن الروضة أو المدرسة ستصلح ما أفسدناه، وهذا لن يكون أبداً بدون ثمن.
جميل جداً هذا التوضيح. وبالنسبة لقضية الهوية، لو ذهبنا إلى الرسائل التي تبث عبر الشاشات مثل: الإلحاد، الشذوذ، وحتى المحرمات التي تقدم للطفل بطريقة جذابة ومموهة؛ لماذا أصبحت تقدم بهذه الطريقة؟
المحتوى الذي يروج للأمور المحرمة أو التيارات الفكرية التي لا تتماشى مع هويتنا ينقسم لقسمين:
- محتوى موجه: أي 'أجندة' تعمل على تخريب هؤلاء الأطفال أو هذا الجيل.
- محتوى منتج من طرف أشخاص بعيدين عنا ثقافياً: مثل محتوى 'الأنمي' (Anime) القائم على الفلسفات الشرقية التي لا تتماشى بتاتاً مع ديننا؛ فيها أفكار تناسخ الأرواح، وخصومات الآلهة، وأفكار خاطئة جداً والطفل يتبناها. في الألعاب الإلكترونية يقول له: 'يمكن أن تشتري حياة أخرى' أو 'اشرب من هذا الماء وتحصل على قوة خارقة'؛ هي تضرب معتقداتنا في الصميم.
أيضاً المحتوى يقدم شيئاً من 'التطبيع' مع الشذوذ مثلاً. في قصة سيدنا لوط عليه السلام، يُضرب المثل بزوجه التي كانت 'مطبّعة' مع سلوكيات القوم؛ لم تكن منهم لكنها كانت تعتبر الفعل طبيعياً، وهذا خطير جداً. قد نجد بعض الأبناء يتابعون هذا المحتوى، هو لا يقوم بذلك الفعل ولكن يطبّع معه؛ يتعاطف مع القاتل، أو متعاطي المخدرات، أو الذي يمارس الشذوذ ويراه حقاً من حقه.
هذه 'الألفة' التي تُبنى بين الأطفال والسلوكيات الخطيرة تصنع شخصاً جاهزاً لهذا السلوك في أي لحظة؛ لأنه رأى هذه النماذج ورأى أن حياتهم جميلة. وهنا تصبح 'المتعة' هي القيمة العليا. وإذا رأى أن حياتهم جميلة، سيقول: 'أين المشكل في أن أفعل ما يفعلونه؟ هم يعيشون حياة طيبة وربما أفضل من حياتي'. وهنا نقع في مشكلة المقارنة الهدامة؛ قديماً كان الابن يقارن نفسه ببيئته فقط، الآن يقارن نفسه مع نماذج 'مستهلكة' و'سعيدة' -بين قوسين- فيتبنى كل تلك النماذج ثم ينظر إلى ما لديه فيرى أنه لا شيء.
استاذة، نذهب إلى نقطة القدرات العقلية؛ المنصات اليوم تتولى التفكير بدلاً عن الطفل، فما الذي يحدث فعلياً؟
الدماغ البشري فيه ما يسمى 'المرونة العصبية' (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على التكيف مع المحيط. قديماً لما ظهرت الساعات، تغير إدراك الإنسان للوقت. لما ظهرت الكتابة، قيل إن قدرة الإنسان على التذكر بدأت تضعف لأنه صار يعتمد على الورق. الآن مع العالم الذكي، أخذ من الإنسان أكبر قدرة لدماغه وهي التفكير؛ صار الجهاز يفكر بدلاً عنه. لهذا يقال: 'هاتف ذكي في يد جيل غبي'؛ لأنه صار يعتمد كلياً على العالم الرقمي.
المحتوى الرقمي يقدم ما يسمى 'القفز إلى الاستنتاجات'. طفل يريد تعلم الإعراب، سيختار فيديو 'تعلم الإعراب في خمس دقائق'. هل يمكن تعلم الإعراب في خمس دقائق؟ مستحيل. هذا يقدم 'الخلاصة'، والخلاصة هي معلومة بلا جذور؛ الطفل لم يمر بمرحلة الملاحظة، والتتبع، وربط الأفكار، وتمحيصها. نحن حرمناه من 'التبصر'. هو لا يبحث عن 'لماذا' أو 'كيف'، بل ينظر للنتيجة فقط، فيفقد مهارة التعلم الحقيقي.
والكارثة العظمى هي خلق 'وهم المعرفة'؛ يظن أنه يعرف وهو يملك 'ذاكرة السمكة' التي تذهب بعد خمس دقائق. وهم المعرفة أخطر من الجهل نفسه. وهذا سيؤدي حتماً إلى تراجع التحصيل الدراسي، لأن التحصيل قائم على: التركيز، التفكير التحليلي، والذاكرة. الشاشات قضت على التركيز؛ هي تدريب على التشتت، فالمحتوى لا يطول أكثر من 30 ثانية.
أيضاً التعلم عبر الشاشات هو 'تعلم أفقي'؛ الطفل يعطيك قشوراً من المعلومات (بركان في إثيوبيا، قبيلة في أمازون..) لكن أين الغوص في الجذور؟ العقل يهتم فقط بالغرابة والإثارة، لكن لو أعطيته مسألة رياضية أو بيتاً شعرياً ليبحث عن معناه، لن يستطيع. الأمهات يفسرن هذا على أنه 'ذكاء'، بينما هو مجرد حفظ 'أغنية الأرقام' بالإنجليزية دون إدراك لمهارة العد الحقيقية.
استاذه، ما هي واجبات الأولياء؟ الأم تسلم الشاشة لطفلها لترتاح من صراخه، فماذا يخسر الطفل في سن مبكرة؟
هناك قاعدة: 'إثمهما أكبر من نفعهما'. عندما يغلب الإثم على النفع، يجب الحذر. الأم تبحث عن 'الإغراء' الذي توفره الشاشة؛ منظر طفل مستلقٍ وهادئ لا يطالب حتى بالطعام! لكن هذه الراحة ستدفع ثمنها الأم لاحقاً عندما تجد صعوبة في تعليمه سورة الفاتحة أو الرياضيات.
الخطر أكبر مما نظن. بعض الأمهات ما زلن يعشن في 'النموذج القديم' للشاشات، ولا يدركن وجود تطبيقات تخفي تطبيقات أخرى، أو ألعاب تطلب تصوير النفس لإكمال اللعب، أو إعلانات تتلون حسب الشخص الموجود خلف الشاشة.
قديماً، كان الطفل 'فاعلاً' في بيئته؛ يلعب بالتراب، يتخاصم، يكتشف قدراته، ويعيش تجارب حقيقية. الألعاب الإلكترونية توفر 'وهم الفوز' وتحرمه من التجربة الحقيقية. التواصل الاجتماعي تحول لـ 'قطيعة اجتماعية'. أكبر تحدٍ هو أن يخرج الآباء أبناءهم للبيئة الحقيقية. بعض الأمهات يعتبرن الشارع خطراً، لكن خطر الشارع (اتساخ الملابس مثلاً) أهون بكثير من خطر 'تنظيف الدماغ' من محتوى إلحادي أو عنيف.
الآباء استسلموا لـ 'الحتمية الرقمية' أو مارسوا 'سياسة النعامة'. الحماية واجب وليست تفضلاً، وهي جزء من امتحانك في التربية. يجب بذل مجهود في أخذ الطفل للنادي أو للرياضة، فالطفل أصله الحركة وليس الحبس بين الجدران.
وعن غياب الحب والأمان، كيف يتحول هذا لادمان رقمي؟
الطفل يبحث عن: الأمان، الدعم، الحب، المدح، والتشجيع. إذا لم توفر البيئة الوالدية هذه الأمور، سيبحث عنها في مكان آخر. الإدمان هو هروب من بيئة فيها عنف، سوء معاملة، أو 'إهمال'. الشاشات توفر البديل بكميات أكبر وأكثر إثارة. الفتاة التي تطلب ثناءً على شكلها ستجده، والابن الذي يطلب تشجيعاً سيجده. في الألعاب الإلكترونية 'لا يوجد عقاب'؛ إذا خسر يقال له 'فرصة قادمة'، بينما في البيت قد يجد لوماً وعتاباً. لذا الشاشة تعطيه الأمان الذي افتقده.
كيف نرفع مهارة 'الوعي الرقمي' لدى الطفل؟
بداية، مع الأعمار الصغيرة يجب 'منع' الشاشات، ثم 'تقنينها' (تقنين المحتوى، الوقت، ونوع الشاشة). الهاتف هو آخر ما يُعطى للطفل، والتلفاز أو الحاسوب أكثر أماناً.
أول مهارة في الوعي الرقمي هي 'تسمية الفعل'؛ لا يوجد شيء اسمه 'أعطيني الهاتف'، بل 'ماذا ستفعل بالهاتف؟'. هل ستتواصل؟ هل ستلعب؟ هل ستبحث في (ChatGPT)؟ هذا يولد حضوراً ذهنياً. إذا قال 'سألعب'، نسأل: 'أي لعبة؟ وكم من الوقت؟'. وبعد اللعب نحتاج لـ 'تغذية راجعة': 'بماذا شعرت؟ لماذا شعرت بالغضب؟'.
من مشاكل المحتوى الرقمي 'فوضى المشاعر'؛ الطفل ينتقل من حزن لغضب لفرح في ثوانٍ، مما يولد 'بلادة المشاعر'. يجب أن يلاحظ الطفل الوقت المستغرق؛ إذا بحث عن كلمة في جوجل واستغرق نصف ساعة بينما القاموس يأخذ دقيقتين، يجب أن يدرك أن هذه لم تكن الطريقة الأنسب."
الوحيدة للحصول على هذه المعلومة، وهل حصلت عليها -يعني- بالطريقة الجيدة؟ إذن، ها هو الطفل -يعني- يستخدم بعض الحيل من أجل أن يقضي وقتاً أكثر عبر الشاشات، نعم نعم، من أجل حتى لو كان الأولياء يراقبونهم.
نعم نعم أستاذة، أيضاً تحدثتِ على نقطة مهمة جداً؛ قضية المحادثات الرقمية، وقلتِ إنها اليوم أخطر من المحادثات الواقعية. أين يكون الحضور دائماً؟
شوفي، مع الوعي الرقمي، الوعي الرقمي لازم نتحدثوا كثير مع الأبناء؛ الوعي الرقمي ماذا يتطلب أولاً عند الآباء والأمهات؟ اللغة الواضحة، يحب الوضوح، لا تهرب من "التابوهات" ولا تتحدث -يعني- بالاستعارات المكنية وكذا، بل مباشرة، وضوح مباشر.
يعني الآن قررت أنك تعطي لابنك الشاشات، تحمّل مسؤوليتك، اهدأ معها مباشرة. لا تحاول أن تقول: "يا ولدي على بالك بلي كاين أشياء حرام نشوفوها، يلا حرام ما تشوفهاش"، لا، اشرح له ما هو هذا الحرام؟ ماذا يوجد عبر الشاشات؟ من يقف خلف هذا المحتوى الرقمي؟ ناقش مع ابنك، قل: "يا ابني إذا شفت محتوى غير جيد كلمني فيه، راني هنا، أنا هنا لأشرح لك".
كما عندنا مواقع لحجب المواقع الممنوعة وكذا، أساعدك حبيبي إذا أشخاص يقعون في إدمان محتوى غير أخلاقي؛ كيف نتعامل؟ إذا شفت الفيديو الأول خبرني، إذا ظهر لك الفيديو خبرني.
مثلاً نذهب لظاهرة الابتزاز الإلكتروني؛ هي موجودة، والابتزاز الإلكتروني ما هو؟ هو أن شخصاً يطلب صورة مثلاً، أو عنده معلومة عنك، أو يبعث لك رسالة تهديد، إما يطالب بفعل كأن يقول مثلاً: "ابعث لي مزيداً من الصور"، أو مال، أو أي خدمة أو أي شيء كذا، يتعرض لها الأبناء والمراهقون. مشكلة الابتزاز الإلكتروني هي عندما لا يخبر الأبناء الآباء؛ فيتمادى (المبتز) ويتمادى، حتى نصل أحياناً إلى حالات انتحار لبعض المراهقين، نجد أن المشكل كان تعرضه إلى الابتزاز الإلكتروني.
إذن، أنت كأب أو كأم، إذا قررت أن تعطي الشاشة لابنك، وأنت تعلم بأن ابنك يقضي وقتاً مع الشاشة ومع أشخاص آخرين -والشاشات معناها شبكة متصلة مع أشخاص، حتى لو أنك لا تراهم- إذا قررت هذا، كن واضحاً مع ابنك: "يا بني إذا تعرضت للابتزاز الإلكتروني أنا هنا أحميك. يا بني إذا حدث -وممنوع أن تبعث الصور وكذا- ولكن إذا حدث وبعثت صورتك خبرني أنا هنا أحميك". هناك حالات يبعثون فيها صوراً، وانظر بعدها ماذا يطلبون منهم؛ "أنا هنا أحميك، الخطأ الأول أنا أتحمله".
كونوا واعيين وأعطوا مساحة أمان للأطفال وللأبناء بأن الخطأ إذا حدث عبر الشاشات "أنا هنا لحمايتك لا لمحاسبتك"، لأن الخطأ يبدأ صغيراً وبعدها يكبر ويكبر حتى يتحول إلى كارثة لا يستطيع تحملها الأبناء، واحتمالية الخطأ موجودة صراحة. لما نرى كيف يتم الإلحاح في طلب صورة مثلاً، أو إلحاح أحياناً في بعض الألعاب الإلكترونية، فالإنسان قد يكون (الطفل) في لحظة لا وعي ويفعلها.
إعطاء المعلومات الخصوصية مثلاً قد يكون في لحظة لا وعي ويفعلها، مثل ملء الاستمارات؛ هذه الأمور يجب أن نكون واضحين فيها. المحادثات الإلكترونية مثلاً: "مع من تتحدث حبيبي؟ إذا كاين شخص غريب خبرني". مثلاً مع العائلة، لنتفادى بعض المشاكل، قل: "مع العائلة حدثهم بالهاتف" لننقص من المشاكل، لا تقل: "كنت أتحدث معه وقدم لي نفسه على أنه ابن عمي"، ثم يتبين أنه ليس ابن عمه بل شخص آخر، فانتحال الشخصية موجود عبر الشاشات، ولا يجب أن نستهين بهذا الأمر.
إذن، هذه من مهارات الوعي الرقمي. أيضاً مهارة أخرى نتكلم عنها هي ضبط الألعاب؛ إذا أنت سمحت لولدك بلعب الألعاب الإلكترونية، نضبط قوانين الألعاب. ألعاب القمار الإلكتروني مثلاً ممنوعة، ويجب شرح مفهوم القمار الإلكتروني للأبناء. وأنت إذا كان ابنك يلعب، ابحث عن هذه اللعبة؛ ما هي؟ وما هي كوارثها وتداعياتها؟
وهنا بالمناسبة، وقعت لي في بعض الاستشارات أن أماً سمت لي لعبة وقالت لي: "أستاذة، أنا ابني عمره 11 سنة، واللعبة هذه (10+)"، إذن اللعبة هذه يقدر يلعبها! لكن (10+) بمفهوم مَن؟ من الذي صنفها (10+)؟ بالمفهوم الغربي، من صنعها صنفها بالمفهوم الغربي. والمحتوى الغربي المسموح لعشر سنوات، قد يكون محتوى غير مسموح لنا نحن كراشدين وبالغين! إذن، معايير تصنيف الألعاب الغربية لا تأخذيها وتضعيها كأمان على مجتمع مسلم له مبادئه وقيمه. تخيلي أن هذه الألعاب "الآمنة" بالمفهوم الغربي هي كوارث بمفهومنا نحن.
الألعاب الإلكترونية من الأمور التي نتركها للأخير، وتكون عندها روابط؛ ومن الأفضل ألعاب غير متصلة بالإنترنت. وأفضل الألعاب أنه حتى لو كان لازماً أن يلعب مع شخص آخر، أن يكون هذا الشخص نعرفه من هو، لا يلعب مع أشخاص غريبين؛ ممنوع الصور، ممنوع الأسماء، ممنوع التحدث. يجب أن تكون الضوابط ظاهرة، وإذا أنت سمحت لابنك تحمّل مسؤوليتك، تحمّل مسؤولية مراقبته، لا تتركه وتلقي به في المحيط وتظن أن السباحة ستنقذه؛ لا تنقذه السباحة، فالشخص الذي يغرق في المحيط حتى لو كان يجيد السباحة لن ينجو، إذن يجب أن نفكر بهذا الأمر.
نعم، كاين نقطة أستاذة مهمة جداً فيما يخص قضية "الفلاتر" اليوم. سبحان الله، الناس التي واكبت الشاشات وهذه المنصات أصبحت لا يمكن أن تظهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون استخدام هذه الفلاتر. اليوم كيف يكون خطرها على الطفل؟ الطفل الآن نعطيه هاتفاً، هذا الهاتف فيه منصة، وهذه المنصة فيها مجموعة من الفلاتر؛ ماذا ستزرع في نفسية الطفل؟ أكيد سيكون طفلاً ليس لديه شخصية.
شوفي، مرة كنت مع مجموعة أطفال ورأيتهم يأخذون صوراً، والصورة تلك تحولك إلى "كلب" -أكرمكم الله- وهم فرحون بها كثيراً! "يا وعجبها!".. هل العجب يوصل بالإنسان إلى أن يعجب بصورته على شكل كلب -أكرمكم الله- مقابل صورته الحقيقية؟ هذه كارثة نحن لا ندركها. ربي سبحانه وتعالى يقول لنا: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}، لا يوجد تقويم أحسن مما خلقك الله عز وجل عليه.
تخيلوا إذا لجأنا إلى هذه الفلاتر، المشكلة ما هي؟ هي أنها تصنع لنا صورة مزيفة، وتلك الصورة المزيفة تجعل الطفل يكره صورته، وإذا كره الإنسان صورته فهذه مشكلة. مع فئة البنات عندنا هذه المشكلة قوية جداً، والآن تسللت إلى الذكور أيضاً. تخيلي تلك البنت؛ فالشكل عند الفتاة هو أمر مهم جداً، وفي المراهقة هو أمر مهم جداً تهتم به كثيراً، تخيلي الآن تلك البنت تقول لك: "أنا لست جميلة ولا أرى نفسي جميلة"، وتهرب من المرآة وتفضل صورتها في "الآيفون" أو في "الآيباد" مع فلاتر أخرى وتعجب بها. تخيلي، تلك الصورة تعطيها رسالة بأنك لن تدركي الجمال أبداً ولن تكوني جميلة أبداً.
وهنا بالمناسبة، من بين مشاكل المحتوى ما يسمى "الأنمي"، وهي ربما تحتاج إلى بودكاست وحدها؛ إدمان الأنمي بما فيه من مشاكل. الأنمي تصور الفتاة على شكل معين؛ القامة، والنسبة ما بين الوجه والجسم، ونسبة العيون داخل الوجه (العيون كبيرة جداً وبيضاوية الشكل ولامعة)، تصورها لك بطريقة لا تشبه الإنسان، لكن للاسف بعض الناس يعتبرونها إنساناً ويأخذون تلك الصورة على أنها "الإنسان الذي أريد أن أكونه". ماذا تبدأ الفتاة هنا؟ تبدأ في رحلة البحث عن أن تكون تلك الصورة؛ مشكلة كبيرة تحدث اهتزازاً في صورتها. ثم الجانب الجمالي يأخذ كثيراً من وقتها ومن اهتماماتها، ونجد هذه البنت غارقة فقط في هذا الجانب، تهتم بالمظهر فقط، ونهمل هنا البناء الروحي والبناء النفسي والبناء العقلي على حساب هذا الأمر، ونضيع؛ لأن هذا الاهتمام سيكون على حساب أمور أخرى مهمة.
هذا يحدث عند كثير من الناس، هذه مشكلة الفلاتر على المستوى الشخصي. المشكلة الأخرى ما هي؟ هي أن الفلاتر تلمع كل شيء، تلمع صورة "الآخر" الذي سيتحول إلى قدوة لأبنائنا. هذه المؤثرات البصرية في الصور، الموسيقى الخلفية الجميلة التي هي أيضاً نوع من الفلاتر، تزين الكمال بتلك الرتوشات التي تمحو الأمور غير الجيدة، وتترك فقط الأمور الجيدة؛ زاوية الإضاءة وزاوية التصوير، كل هذا يصنع لي مشهداً جميلاً، ولكن ذلك المشهد هو جمال لا يُدرك، مشهد لن يعيشه هذا الابن. ولن يرى ويختزل كل حياة ذاك "الفلوغر" أو "اليوتيوبر" في ذاك المشهد، ويظن الابن أن تلك الحياة جميلة ويصورها على أنها هدفه وحلمه، ولا يرى الجانب المظلم بل يرى فقط الجانب الجميل، وبعدها يبدأ ذاك هو الهدف الذي يسعى إليه، وعادة لن يدركه. لما يصورون مثلاً الغنى والمشاهير، نحن كم نسبة الأثرياء في العالم؟ كم نسبة أصحاب السيارات الفاخرة في العالم؟ هم معدودون. الحقيقة تقول إن الأغلبية لن يصلوا إلى ذلك؛ إذن هنا كمية الإحباط وكمية الإحساس بالفشل والعجز. وسبحان الله، ربي سبحانه وتعالى قالها في كتابه العزيز: {ولا تمدن عينيك}، فما بالك الآن ونحن نمد أعيننا إلى أمور غير حقيقية؟ هذه المرأة التي تظهر لي وتري لي بيتها وأبناءها على أنهم ملائكة فوق الأرض، وبيتها على أنه قصر، وزوجها على أنه الرجل الذي تحلم به الفتيات منذ عصور؛ هذه أصلاً ليست حقيقة، وأنا أمد عيني نحوها! تخيلي حجم معاناة الإنسان وهو ينظر إلى هذه الأمور.
فعلاً، لما نتحدث أستاذة عن قضية "الإعجابات"، سواء كانت للصور أو حتى للمنشورات، كيف ممكن أن نعيد تشكيل مفهوم الإعجاب للطفل؟ لأنه اليوم منشور مثلاً حصل على مليون، أو صورة حصلت على 2 مليون، ممكن الطفل عندما يرى هذه الأرقام يعتقد أنها هي الحقيقة وهي الصح.
شوفي كاين قاعدة، قديماً كان الناس يقولون: "رضا الناس غاية لا تُدرك"، حالياً يقولون: "إعجاب الناس غاية لا تُدرك"، والبعض يصححها ويقول: "إرضاء الناس غاية تُترك" لأنها أصلاً ليست غاية. مع ابنك، إذا كان عنده شاشة أو حساب، إعجاب الناس ليس غاية أصلاً، ليس غاية بتاتاً.
على فكرة، في بعض الدول منعوا الإعجابات لمن هم دون 16 سنة، أن لا تظهر الإعجابات على حساباتهم في "إنستغرام"؛ لماذا؟ لأن ذلك العدد من الإعجابات أصبح المراهق مهووساً به، ينام ويستيقظ ينتظر عدد الإعجابات إذا زاد أو نقص. القاعدة الأولى هي ألا يكون أبداً هدفنا إعجابات الأشخاص؛ ليس غاية وليس هدفاً. ثانياً، نفهم في إطار رفع الوعي الرقمي أن الإعجابات الكثيرة لا تعني أن المحتوى جيد، لا تعني أن المحتوى جيد.
وهنا ممكن نعمل تجربة بسيطة مع الأبناء؛ نشاهد فيديو لشخص معين مثلاً، ثم أقول: "عجبك الفيديو؟"، "نعم عجبني"، "وما الذي أعجبك؟". ربما مثلاً نأخذ مثال فيديو لزيارة شخص ما إلى بلد معين (فيديوهات السفر)، هو ربما الابن أعجبته البلاد، إذن: "أعجبت بالبلد لكن الشخص هذا لم يعجبك، ربما أعجبك الشخص والبلد لم تعجبك، ربما أعجبتك الخلفية الموسيقية، ربما أعجبتك قطعة بسيطة من أكلة كانت خلال الفيديو". إذن حتى إعجابنا بكل الفيديو هو شيء صعب، ذاك الذي وضع "إعجاباً" ربما أعجبته حاجة واحدة فقط وليس كل الفيديو.
إذن هنا كأننا نجزئ المشهد للأطفال ليفهموا بأن ذاك الفيديو هو خليط من كثير من الأمور؛ مونتاج جيد وموسيقى جيدة وكذا، وربما شيء واحد فقط هو الذي يستحق الإعجاب. مثلاً من الأمور الشهيرة، يقول لك: "شاهد لاعب كرة قدم يسجد شكراً لله"، وتسقط الإعجابات فقط لأن تلك السجدة كانت فعل سجود، ونتغاضى عن أمور أخرى سيئة ربما كانت في الفيديو.
إذن هذه نقطة في الإعجابات، نشرح لهم أيضاً بأن الإعجابات أحياناً يعطيها الإنسان مجاملة فقط، وأن هناك "روبوتات" الآن تعطيك الإعجابات لترفع نسبة الإعجابات. وأن المحتوى الجيد لا يعني بأن الشخص جيد؛ قد يكون المحتوى جيداً ولكن هذا الشخص بالضبط لا يستحق الإعجاب، فلا نساهم في انتشاره. وحتى لو كان المحتوى تافهاً وأنا أشاهده، لا أساهم في انتشاره عن طريق الإعجابات.
هنا يجب أن يفهم الأبناء أثر المونتاج، ويفهموا أيضاً ونعطيهم بعض الأمثلة عن بعض الأخبار الكاذبة أو بعض الفيديوهات الكاذبة التي تنال رواجاً كبيراً وإعجاباً، ثم نكتشف أن الخبر كاذب. وعندنا أيضاً أمثلة من القرآن الكريم؛ {وأكثرهم} مع من ذكرت في القرآن الكريم؟ هل هم الصادقون أصحاب الجنة أم الأشخاص الآخرون؟ إذن الأكثرية أبداً لا تعني الحقيقة ولا تعني أنهم على حق.
نعم، في كل بيت -أستاذة- يجب أن يكون لنا عقد لضبط هذه الشاشات، أو "نموذج العقد السلوكي". فكيف ممكن أن يكون لنا هذا العقد لنحمي به طفلنا دون أن يحس بأنه مقيد؟
نعم نعم، شوفي بدايه العقد السلوكي يكون بعد بناء مهارة الوعي الرقمي أو بالتوازي مع ذلك. ومهارة الوعي الرقمي فيها كثير من الأمور، أهمها هو التفكير النقدي؛ أن نعلم الطفل التفكير النقدي، مثلاً الأخبار الكاذبة وكيف نتأكد من الخبر عن طريق ثلاثة مصادر على الأقل. الأرقام مثلاً، يفهم ما يسمى "أمية الأرقام" ولماذا تقدم الأرقام في الفيديوهات. يتعلم أيضاً كيف تكون العناوين كاذبة أحياناً لجذب الانتباه فقط. يجب أن نرفع مهارات الوعي الرقمي كثيراً قبل الحديث عن العقد السلوكي.
ثم العقد السلوكي ما هو؟ هو أداة نستخدمها مع الأبناء من أجل ضبط المحتوى وضبط التوقيت، وأيضاً العواقب عند عدم الالتزام. العقد السلوكي فائدته الكبرى هي أنه يثبت للطفل بأن هذه الشاشة ليست دون رقيب، ولكن أيضاً لننمي عنده الرقابة الذاتية؛ أن يكون عنده ضمير ذاتي، وأن هذه الشاشة ليست ملكك، بل أنا أعطيتك إياها أو سمحت لك باستخدامها ساعة أو ساعتين في اليوم مقابل التزاماتك وانضباطك.
في العقد السلوكي نجلس مع أبنائنا، وننطلق من أن "الشاشات الآن ستستخدمها وأنا سمحت لك، ولكن عندنا قوانين". قوانين كل ما قلناه من قبل، مثلاً: مع من مسموح أن أتكلم عبر الشاشة؟ أي شخص غريب ممنوع، ونكتب ذلك ليؤخذ على محمل الجد. مع من مسموح؟ أصدقائي فلان وفلان. نعطيه الشاشة ولكن ممنوع فتح حساب على السوشيال ميديا، ممنوع استخدامها بعد الثامنة ليلاً.
إذن يجب أن تكون عندنا قوانين واضحة: في ماذا نستخدم الشاشات؟ ما هو مسموح؟ التوقيت؟ ماذا أفعل لو كلمني شخص غريب؟ ثم يكون اتفاق على أن الالتزام بالبنود ينتج عنه استخدام الشاشة، طالما أنت ملتزم فلك الاستخدام، وإذا حدث عدم التزام تُسحب الشاشة يوماً أو يومين حسب حجم الخطأ.
من أهم البنود أيضاً هو بند "كلمة السر"؛ ممنوع وضع كلمة سر. ونحن نستخدمها، وهنا من باب القدوة، أقول: "ها هو هاتفي، أنا ليس لدي ما أخفيه، ها هو حسابي في السوشيال ميديا يمكنك رؤيته، وأنا أيضاً يمكنني رؤية حسابك". البعض يقول: "لا، خصوصية الأبناء!".. شوفي، خصوصية الأبناء لا نتعامل معها بسذاجة، لا نترك أبناءنا في المحيط ونوهمهم بأنهم يحمون أنفسهم بأنفسهم؛ صعب جداً، يجب المرافقة. لن نكون "الهليكوبتر" التي تراقب كل ثانية، لكن نتابع ما يكفي لنعرف قبل الكارثة.
المشكلة أن الكارثه تحدث والآباء لا يفيقون في ذاك الوقت. مثلاً في المخدرات العادية، يقال إن متوسط الوقت بين استهلاك الابن واكتشاف الأهل هو سنتان! سنتان من غياب الأب والأم. تخيلي لو أنهم تفطنوا في وقته؟ نفس الشيء بالنسبة للمخدرات الرقمية؛ ربما الابن الآن في تطبيقات مواعدة، أو على علاقة مع شخص، أو فتح حساباً في "تيك توك" ويقدم محتوى وأنت لا تعلمين.
وهنا وصية للأمهات: "من فضلك لا تندهشي!".. لا تندهشي، لأن الدهشة تجعلك لا تعرفين كيف تتعاملين. دائماً سؤال الأم: "وأنا ابني ربيته أحسن تربية!".. أنت ربيته أحسن تربية، لكن الكل معرض لهذا الأمر، نحن في عالم لا أحد فيه بمعزل. لما نتحدث عن إدمان الإباحية، لا يوجد إنسان في مأمن وهو يملك هاتفاً. سيدنا حذيفه بن اليمان كان يقول: "كنت أسأل عن الشر مخافة أن يدركني"؛ فالإنسان يعرف الشر ليتوقاه.
والشر في الشاشات لا نكتشفه عند ظهوره بل فيما بعد. لهذا نقول للأم: "لا تندهشي، أعطيتِ الهاتف لابنك فهو معرض للخطر"، لازم يكون عندك ثبات انفعالي عند المواجهة، والجاهل لا يُعذر في هذا العصر؛ فكل شيء متاح أمامنا من كتب ومنصات توعية، إلا من أبى.
أستاذة، ما نختم به هو صفات "الطفل الراشد رقمياً" الذي نريد تربيته اليوم؛ ما هي الصفات التي يجب أن يحملها؟
شوفي بدايه، إذا قدرنا نربي ابناً يتوقف قبل استهلاك المحتوى، يسأل نفسه: "هل أنا بحاجة لهذا المحتوى؟"، ثم بعد المشاهدة يسأل: "ماذا صنع فيّ هذا المحتوى؟ هل أضاف لي علماً؟ هل أعطاني متعة؟ هل هدم فيّ قيمة؟". لو استطاع الابن قول هذا، فقد مشينا كثيراً في رشده أمام المحتوى.
وإذا صنعنا ابناً يستطيع أن يقول "لا" لبعض أنواع المحتوى، وأن يقول "الخوارزمية تعرض عليّ هذا وأنا لست بحاجة إليه"، وإذا استطعنا صنع ابن يتواصل معنا حول المحتوى، نناقشه ويتكلم معي عما شاهد وما ينوي مشاهدته؛ إذا صنعنا هذا، فقد صنعنا بيئة آمنة نوعاً ما لهذا الابن.
جزاك الله خيراً، نسأل الله عز وجل أن يكون في عون أمهاتنا وآبائنا. كلمة ختامية؟
شكراً لكِ أستاذة، وأتمنى لكل الأمهات والآباء الذين وصلوا معنا للنهاية ألا يعتبروا الأمر يائساً، فالحل موجود وإمكانية الإصلاح والتعامل النافع موجودة، فقط ننتظر من يقول "أنا هنا".
ليس يائساً بل هو صناعة وعي. نلقاكم بحول الله تعالى في عدد آخر، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.