في مسارات النهوض الحضاري، تبرز الحاجة إلى رؤية جامعة تُنظّم المعنى، وتوحّد الاتجاه، وتمنح الفعل الجمعي بوصلةً واضحة. فالحضارات التي امتلكت قدرة الاستمرار والامتداد، كانت تلك التي صاغت لنفسها رؤية كبرى تُجيب عن أسئلة الوجود والغاية والدور، ثم حوّلت هذه الرؤية إلى إطار ناظم للسياسة والتعليم والاقتصاد والثقافة والعمران. من هنا تنبع أهمية آلية بناء الرؤية الحضارية الجامعة بوصفها آلية تأسيسية تسبق البرامج والمشاريع، وتؤطّر كل أشكال الإصلاح اللاحقة.
أولًا: معنى الرؤية الحضارية الجامعة
الرؤية الحضارية الجامعة تمثّل صورة ذهنية كبرى مشتركة حول “من نحن؟”، و“إلى أين نتجه؟”، و“كيف نتحرك؟”. وهي رؤية تتكوّن من منظومة قيم، وتصور إنساني، ووعي تاريخي، وفهم سنني لمسارات الصعود والهبوط. هذه الرؤية تمتلك طابعًا جامعًا لأنها تستوعب التنوّع داخل المجتمع، وتمنح كل فئة موقعها ودورها، ضمن إطار كليّ واحد.
الرؤية هنا تتجاوز كونها شعارًا أو وثيقة مكتوبة، لتتحوّل إلى مرجعية ذهنية حاضرة في الوعي العام، تؤثّر في اتخاذ القرار، وتوجّه السلوك الفردي والجماعي، وتُحدّد أولويات الاستثمار في الإنسان والمؤسسات.
ثانيًا: الأساس المنطقي لبناء الرؤية الحضارية
أي مجتمع يسير دون رؤية جامعة يعيش حالة تشظّي في الجهود، وتباين في المقاصد، وتضارب في السياسات. أما المجتمع الذي يمتلك رؤية حضارية واضحة، فيستطيع تنسيق طاقاته، وترتيب أولوياته، وتحويل الاختلاف إلى تنوّع منتج.
الأساس المنطقي لهذه الآلية يقوم على ثلاث ركائز مترابطة:
1. وحدة المعنى: حين يشترك الناس في معنى كلي للحياة والنجاح والتقدّم، تتقارب اختياراتهم، ويصبح العمل العام امتدادًا لقناعة داخلية.
2. وحدة الاتجاه: الرؤية الجامعة توفّر اتجاهًا عامًا للحركة، بحيث تتكامل المبادرات بدل أن تتزاحم.
3. وحدة المرجعية: وجود مرجعية قيمية وفكرية مشتركة يقلّل من الارتباك في لحظات الأزمات والتحوّلات.
ثالثًا: المكوّنات التحليلية لآلية بناء الرؤية الحضارية الجامعة
1. استيعاب الهوية التاريخية
بناء الرؤية الحضارية ينطلق من فهم عميق للتجربة التاريخية للمجتمع: نجاحاتها، تعثراتها، رموزها، ولحظاتها الفارقة. هذا الفهم يعيد قراءة التاريخ بوصفه مخزون خبرة، ومجال تعلّم، ومصدر إلهام. فالأمم التي أعادت اكتشاف سرديتها التاريخية استطاعت إعادة بناء ثقتها بنفسها، واستئناف دورها الحضاري.
2. تحديد القيم الحاكمة
كل رؤية حضارية تقوم على مجموعة قيم مركزية مثل الكرامة، والعدل، والمعنى، والعمران، والمسؤولية. هذه القيم تشكّل الإطار الأخلاقي الذي يوجّه السياسات والقرارات. حين تكون القيم واضحة ومتوافقًا عليها، تصبح معيارًا للتقويم والمساءلة، وتتحوّل من مفاهيم نظرية إلى معايير عملية.
3. صياغة تصور الإنسان ودوره
الرؤية الحضارية الجامعة تحتاج إلى تصور واضح للإنسان: إنسان فاعل، مسؤول، قادر على التعلّم والتجديد، مرتبط بالمعنى، ومؤمن بدوره في إعمار الأرض. هذا التصور ينعكس مباشرة على أنماط التربية، وأساليب التعليم، وسياسات التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
4. استشراف المستقبل بوعي سنني
الرؤية الجامعة تنظر إلى المستقبل بوصفه مجال تخطيط وعمل، مرتبط بقوانين التغيير والسنن الاجتماعية. فهي تستشرف التحوّلات التقنية، والديمغرافية، والبيئية، والثقافية، ثم تدمجها ضمن مشروع متوازن يحفظ الهوية ويستثمر الفرص.
5. تحويل الرؤية إلى لغة مشتركة
الرؤية الحضارية تحتاج إلى لغة قادرة على الوصول إلى مختلف فئات المجتمع: لغة تعليمية، إعلامية، ثقافية، وفنية. حين تتحوّل الرؤية إلى سردية مشتركة، تتردّد في المناهج، والخطاب العام، والإنتاج الثقافي، تصبح جزءًا من الوعي اليومي.
رابعًا: آلية الاشتغال العملي للرؤية الحضارية الجامعة
تشتغل هذه الآلية عبر مسار تراكمي:
- تبدأ بحوارات فكرية ومجتمعية عميقة حول المعنى والاتجاه.
- تنتقل إلى صياغة وثيقة مرجعية تعبّر عن القيم والتصورات الكبرى.
- ثم تُترجم إلى سياسات عامة في التعليم، والإعلام، والتنمية.
- وتُفعّل عبر مؤسسات قادرة على الحفظ والتجديد والمتابعة.
الرؤية هنا تمارس وظيفة “الضابط الأعلى” الذي ينسّق بين الخطط قصيرة المدى والمشاريع بعيدة الأفق.
خامسًا: نماذج وأمثلة واقعية
1. التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية
اليابان أعادت بناء نفسها انطلاقًا من رؤية حضارية جامعة ركّزت على قيمة الإنسان المتقن، والعمل الجماعي، والاحترام، والجودة. هذه الرؤية انعكست في التعليم، والإدارة، والصناعة، فأنتجت نموذجًا حضاريًا متماسكًا جمع بين الحداثة والهوية.
2. التجربة الماليزية في مشروع النهضة الوطنية
ماليزيا صاغت رؤية وطنية جامعة جمعت بين التنوّع العرقي والديني ضمن إطار قيمي وتنموي مشترك. الرؤية ركّزت على التعليم، والاقتصاد المنتج، وبناء الإنسان، فحقّقت نقلات نوعية في عقود محدودة.
3. تجربة الاتحاد الأوروبي في بناء سردية مشتركة
رغم التنوّع الواسع، عمل الاتحاد الأوروبي على بناء رؤية جامعة تقوم على قيم التعاون، والسلم، والتنمية المشتركة. هذه الرؤية ساعدت في تحويل القارّة من فضاء صراعات إلى مجال تكامل اقتصادي وثقافي.
سادسًا: الأثر الحضاري لآلية بناء الرؤية الجامعة
عندما تتجذّر الرؤية الحضارية الجامعة في الوعي العام، تظهر آثارها في:
- تماسك المجتمع في أوقات الأزمات.
- وضوح الأولويات الوطنية.
- ارتفاع منسوب الثقة بين الدولة والمجتمع.
- تحوّل العمل العام إلى رسالة ذات معنى.
- قدرة الأجيال الجديدة على الانتماء الواعي بدل الانجذاب العابر.
حجر الأساس
آلية بناء الرؤية الحضارية الجامعة تمثّل حجر الأساس في أي مشروع نهوض حقيقي. فهي الآلية التي تمنح الاتجاه، وتؤسّس المعنى، وتحوّل التنوّع إلى طاقة، والتاريخ إلى خبرة، والمستقبل إلى مشروع. ومن دون هذه الرؤية، تبقى الجهود متفرّقة مهما بلغت جودتها، بينما بوجودها يصبح التراكم ممكنًا، والاستمرار مرجّحًا، والنهوض مسارًا واعيًا متجددًا.
آلية بناء الرؤية الحضارية الجامعة تمثّل حجر الأساس في أي مشروع نهوض حقيقي. فهي الآلية التي تمنح الاتجاه، وتؤسّس المعنى، وتحوّل التنوّع إلى طاقة، والتاريخ إلى خبرة، والمستقبل إلى مشروع. ومن دون هذه الرؤية، تبقى الجهود متفرّقة مهما بلغت جودتها، بينما بوجودها يصبح التراكم ممكنًا، والاستمرار مرجّحًا، والنهوض مسارًا واعيًا متجددًا.