1. مقدمة
في إحدى منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، يورد الأستاذ إبراهيم العسعس نصًّا ذكره القَـرافي - رحمه الله - أنَّ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - كان يقول ما معناه: (دأبتُ في قراءة علم التاريخ كذا وكذا سنة، وما قرأته إلا لأستعينَ بهِ على الفقه). ثم يورد الأستاذ إبراهيم العسعس تعليق أحمد بن خالد الناصري الذي يقول: "معنى كلام الشافعي هذا، أنَّ علم التاريخ، لما كان مُطَّـلِعًا على أحوال الأمم والأجيال ومُفصِحًا عن عوائد الملوك والأقيال، مُبينًا من أعراف الناس وأزيائهم ونِحلهم وأديانهم ما فيه عبرة لمن اعتبر، وحكمة بالغة لمن تدبَّر وافتكر، كان معينًا على الفقه ولا بُدَّ. وذلك أنَّ كثيرًا من الآراء الفقهية مبنية على العرف، وما كان مَبنيًّا على العُرفِ لا بُدَّ أن يَطَّرِدَ باطراده، وينعكس بانعكاسه. ولهذا ترى فتاوى الفقهاء تختلف باختلاف الأعصار والأقطار، بل والأشخاص والأحوال. وهذا السبب بعينهِ هو السرُّ في اختلاف شرائع الرسل عليهم الصلاة والسلام وتباينها، حتى جاء موسى بشرع، وعيسى بآخر، ومحمد بسوى ذلك، صلى الله على جميعهم وسلم تسليماً كثيراً.
إن هذا النص المهم يعطينا صورة واضحة عن تصوُّر علمائنا الأعلام عن أهمية ارتباط الفقه وبنائه على الوعي بالتاريخ، ومعرفة أحوال الناس والمجتمعات والأمم. ولذلك كان الفقه الإسلامي علمًا حيويًّا متجدّدًا، ثابت الكليات متغير الجزئيات، تواكب أحكامه تداول الأيام والأمكنة وتغيُّر الأعراف عبر العصور. غير أن هذه الطبيعة الحيوية للفقه لا يمكن فهمها بمعزل عن علم التاريخ، الذي يُعتبر المفتاح لفهم تطوّر الآراء الفقهية وتوسعها وثرائها، وسياقاتها الاجتماعية والسياسية، وأثرها في الواقع العملي. ولهذا السبب، نجد أن كبار الفقهاء لم يكونوا مجرَّد علماء نصوص، بل كانوا أيضًا علماء في التاريخ، يدرسون أحوال الأمم، وتغيُّر العادات والتقاليد، وتأثير التحوُّلات الكبرى على طبيعة التشريع الإسلامي.
وقد أورد الإمام الشافعي - رحمه الله – هذه المقولة اللافتة في هذا السياق، إذ قال ما معناه: "دأبت في قراءة علم التاريخ كذا وكذا سنة، وما قرأته إلا لأستعين به على الفقه." وهذه المقولة، كما علَّق عليها القرافي وغيره من العلماء، تكشف عن إدراك الشافعي لأهمية علم التاريخ في فهم الفقه وإنتاجه، بحيث لا يكون اجتهاده منفصلاً عن الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يعيش فيه الناس، دون أن يفقد صلته بنماذجه الأصلية وكليَّاته الحاكمة وقواعده الكلية وطبيعته الشرعية المعيارية.
2. أهمية علم التاريخ للفقيه
فإذا نظرنا إلى علم الفقه، نجده لا يقتصر على مجرد استنباط الأحكام من النصوص، بل يعتمد على فهم الواقع الذي تُطبّق فيه هذه الأحكام وتنزل على الحوادث والنوازل والأقضية. ومن هنا، فإن علم التاريخ يساعد الفقيه على أداء وظيفته على نحو أكثر دقة وشمولية، وذلك من خلال تقديم مداخل منهجية للفقيه لفهم الأعراف والتقاليد، والتمييز بين المقبول منها والمرذول، ومعرفة أسباب اختلاف الفقهاء في مناهجهم وفتاويهم، واستثمار شرع من قبلنا، واختلاف الشرائع مع وحدة الملة الحنيفية بين رسل الله.
فالعرف مثلاً، يُعدُّ من القواعد الأساسية التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط آرائهم الشرعية، وخاصة في المسائل التي لم يرد فيها نص صريح. وقد أوضح القرافي في تفسيره لكلام الشافعي أن العرف متغيِّر، وأن الآراء الفقهية التي تُبنى عليه لا بدَّ أن تتغيَّر معه، وهو ما يفسِّر اختلاف الفتاوى بين الأزمنة والأمكنة.
فعلى سبيل المثال، قد يكون هناك رأي فقهي في عصر معيَّن يُعتبر مناسبًا لمجتمع ذلك العصر، ولكنه يصبح غير ملائم لمجتمع آخر بسبب التغيُّرات التي طرأت عليه. فدراسة التاريخ تساعد الفقيه على تتبع تطوُّر الأعراف، وفهم كيف أثَّرت في الفقه على مرِّ العصور، مما يجنبه الوقوع في خطأ تطبيق الآراء الفقهية الماضية على واقع جديد لا يناسبها، ولا يتحقق فيها مناط الحكم الشرعي.
كما أن الاختلاف الفقهي بين المذاهب الإسلامية لم يكن ناتجًا فقط عن اختلاف طرق الاستدلال، بل كان أيضًا نتيجةً لاختلاف البيئات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي نشأت فيها هذه المذاهب. فعلى سبيل المثال، نجد أن الإمام مالك كان يعتمد بشكل كبير على عمل أهل المدينة في استنباط الأحكام، لأن المدينة كانت مهد الإسلام، وكان العرف السائد فيها يتمثَّل حياة النبي ﷺ والصحابة، بينما كان الإمام أبو حنيفة يعتمد على القياس بشكل أوسع، نظرًا لأن العراق كان بيئة حديثة العهد بالإسلام، وواجهت العديد من المستجدات التي لم يكن فيها نصوص صريحة.
وهذا يعني أن دراسة التاريخ تمكِّن الفقيه من فهم الخلفيات التي أدت إلى اختلاف الآراء والمذاهب، مما يجعله أكثر إدراكًا للمنهجية الفقهية التي يجب اتباعها عند معالجة المسائل الفقهية المعاصرة، وعلى تفعيل الاجتهاد على أصوله العلمية، مواكبًا لأحوال الناس، موفرًا لهم حلولاً شرعية لقضاياهم ونوازلهم بما يحقق مصالحهم في الواقع، وليس افتراضيًا أو تخيلاً لواقع غير واقعهم.
وهذا يجعل المنتج الفقهي المرتبط بلحظة تاريخية طارئة مثلاً، مثل ولاية المتغلِّب أو التوريث لا يكون أصلاً يقاس عليه، وإنما يبقى مرتبطًا بتاريخيته، وينبِّه على الحالة الأصلية التي تتجاوزه. فإدراك الحالة التاريخية يمنع من تحوُّل الحالة الطارئة إلى قانون عام كلِّي حاكم.
ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم والسُنَّة النبوية ورد فيهما قصص الأمم السابقة كثيرًا، ولا شك أن من أوجه ورود هذا القصص أنه تُستخرج منه الحكمة والتجربة وقوانين الاجتماع الإنساني، كما أنه وسيلة للتعليم والتوجيه، مما يعكس أهمية معرفة التاريخ في استخلاص العبر وفهم السنن الإلهية في المجتمعات.
فالفقيه الذي يدرس التاريخ يستطيع أن يستفيد من التجارب السابقة، سواء في مجال التشريع، أو في مجال تطبيق الأحكام على الواقع، أو إنتاج آراء فقهية أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكنه أن يقارن بين الفترات التي ازدهر فيها الفقه الإسلامي وتلك التي أصابه فيها الجمود، ليستنتج العوامل التي ساهمت في تطوره أو تراجعه. ويمكنه أن يعرف من خلال التاريخ وحوادثه ووقائعه ما هو الطارئ الحادث المقدَّر بضرورته، وما هو الحكم العام الكلي الأصلي الذي يُقاس عليه. كما يمكنه أن يدرس كيف تعامل الفقهاء في العصور السابقة مع المستجدات، مما يساعده على تطوير اجتهاداته وفق منهجية قائمة على أسس راسخة، وتطوير ملَكته الفقهية، وفتح ذهنه على مستجدات جديدة؛ مثل توظيف التقنيات الحديثة واستثمار أدواتها، وتوظيف مناهج العلوم الاجتماعية في درسه الفقهي وفي تنقيحه لمناطات العلل وتنزيله للأحكام.
وكما أشار القرافي إلى أن اختلاف الشرائع بين الرسل - عليهم السلام - جاء نتيجة لاختلاف أحوال الأمم التي بُعثوا إليها. فالتشريع الذي نزل على بني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام كان "شريعة الإصر والأغلال" يناسب طبيعتهم المتشددة وتفلتهم من الاحكام وكثرة خروجهم على أنبيائهم وشدة تعلقهم بالماديات، فجاءت الأحكام فيه صارمة، بينما جاء المسيح عيسى عليه السلام بشرع أكثر لينًا وأكثر اهتمامًا بالروحانيات، نظرًا للظروف التي وصل إليها بنو إسرائيل في وقته، حيث فقدوا جانبهم الروحي تمامًا، وفقدوا صلتهم بالغيب، واهتموا بالأشكال، وذهلوا عن الجوهر الجوَّاني. أما الشريعة الإسلامية، فجاءت شريعة وسطًا؛ شريعة التيسير والتخفيف والرحمة والشمول والمرونة والتعقُّل، تناسب البشرية جمعاء. وهذا الأمر يجعل الفقيه أكثر وعيًا بحكمة التشريع الإسلامي، ويدرك أن الأحكام الشرعية تقوم على كليات، وفيها أحكام قاطعة ثابتة لا تتبدل في أصلها، وتراعي الأحوال عند تنزيلها، وفيها آراء ظنيَّة تتغيَّر بتغيُّر معطيات الزمان والمكان والحال، مما يجعل الأحكام الشرعية تحقِّق مصالح الإنسان في مختلف البيئات والأزمنة والأمكنة والأحوال. وهذا يمنح الفقيه القدرة على التفريق بين الأحكام الثابتة التي لا تتغيَّر، وبين الآراء الفقهية المتغيِّرة التي تتأثَّر بالزمان والمكان.
3. دور التاريخ في الاجتهاد الفقهي المعاصر
في العصر الحديث، يواجه الفقه الإسلامي العديد من التحدِّيات التي تتطلب اجتهادًا متجددًا يأخذ بعين الاعتبار المستجدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فالنصوص الشرعية ثابتة، لكن التطبيقات الفقهية تتطور تبعًا لتغيُّر الظروف والأحوال، مما يجعل دراسة التاريخ ضرورة ملحّة للفقيه حتى يتمكن من إنتاج فقه يتناسب مع العصر، دون أن يخرج عن الإطار الأصولي للفقه الإسلامي، ودون أن يبرِّر الانحراف عن الشرع.
إن الفقيه الذي يمتلك معرفة تاريخية واسعة يكون أكثر قدرة على التعامل مع هذه التحدِّيات بوعي وحكمة، لأنه يدرك أن الفقه الإسلامي ليس علمًا جامدًا، بل هو علم يتفاعل مع الواقع ويتطور معه، وفق القواعد الشرعية الحاكمة ومقاصد الشريعة الموجهة. فالتاريخ يوضح كيف تعامل الفقهاء السابقون مع قضايا عصرهم، مما يساعد الفقيه المعاصر على الاستفادة من تجاربهم والاسترشاد بها في معالجة القضايا المستجدة، وإنتاج فقه يقود الحياة ويحقق الحياة الطيبة التي أرادها الشارع الحكيم للناس.
فعلى سبيل المثال، تُعدُّ المعاملات المالية من أكثر المجالات التي تتطلب اجتهادًا فقهيًا متجددًا، نظرًا للتطورات السريعة التي طرأت عليها، مثل انتشار البنوك الإسلامية، والعقود المالية المعقَّدة، والتعاملات الرقمية. فلا يمكن للفقيه أن يُصدر رأيًا فقهيًا بخصوص هذه القضايا بمجرد البحث في النصوص الفقهية القديمة مهملاً سياقاتها التاريخية، بل يجب عليه أن يدرس كيف تعامل الفقهاء السابقون مع المستجدات المالية في زمانهم، ليستفيد من منهجياتهم في الاجتهاد. فمثلاً عند ظهور العملة الورقية لأول مرَّة، واجه الفقهاء إشكاليات في تكييفها الشرعي، إذ إنَّ المعاملات الإسلامية حينها كانت تعتمد على الذهب والفضة. لكن بالنظر إلى تاريخ النقود وتطوُّرها منذ العصور الإسلامية الأولى، وجد الفقهاء أن النقود لم تكن محصورة في الذهب والفضة فقط، بل كانت هناك أشكال أخرى مثل الفلوس النحاسية التي كانت تستخدم في بعض المناطق. هذا الإدراك ساعدهم في التوصل إلى تكييف فقهي يراعي الواقع الاقتصادي الجديد. وبالمثل، فإن الفقهاء اليوم عند النظر في العملات الرقمية مثل "البيتكوين"، يجب أن يدرسوا تطور النقود عبر التاريخ، وكيف تعاملت النظم الاقتصادية المختلفة مع أشكال الأموال غير التقليدية، ليحددوا ما إذا كانت هذه العملات تستوفي شروط النقد الشرعي أم لا.
كما أنَّ قضايا الأحوال الشخصية، مثل الزواج والطلاق والنفقة والقوامة والحقوق المالية بين الزوجين، تتأثر بالتغيرات الاجتماعية، ولا بد من النظر في تطور الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حتى يتمكن الفقيه من إصدار فتاوى شرعية مؤصلة تتناسب مع الواقع، ليستمر الشرع الحنيف في قيادة الحياة، ويحقق مصالح الناس. فعلى سبيل المثال، مسألة عمل المرأة كانت في العصور الإسلامية الأولى أمرًا شائعًا، حيث كانت النساء يعملن في التجارة (كما فعلت السيدة خديجة رضي الله عنها)، والتمريض (كما فعلت الصحابية رفيدة الأسلمية)، والتعليم، والزراعة. لكن في بعض الفترات التاريخية، طرأت تغييرات اجتماعية جعلت العمل خارج المنزل يبدو وكأنه استثناء للمرأة. ولذلك، فإن الفقيه الذي يدرس تاريخ المجتمع الإسلامي يدرك أن خروج المرأة للعمل ليس بدعة مستحدثة، وإنما كان موجودًا في العصور الإسلامية الأولى وفق ضوابط شرعية، مما يوجهه عند إصدار الآراء الفقهية المتعلِّقة بعمل المرأة في العصر الحديث، ويحتكم على القطعيات الشرعية لا إلى آراء فقهية كانت مرتبطة بظرف تاريخي معيَّن، وتغيُّر الظروف، فلا ينبغي استمرار بناء الفقه على ظرفٍ قد انتهى، بل الارتفاع إلى مستوى كليَّات الشرع وقطعياته، والنظر في مقاصده، وإنتاج فقه يحقق المصالح الشرعية للناس.
كما تُعدُّ قضايا الحريَّات وحقوق الإنسان من القضايا المهمة التي تتطلب اجتهادًا فقهيًا يعتمد على دراسة التطوُّرات التاريخية. فالفقه الإسلامي يحتوي على قواعد عظيمة لحفظ حقوق الإنسان، لكن تطبيقها تباين عبر العصور تبعًا للسياقات السياسية والاجتماعية. ومن هنا، فإن الفقيه المعاصر يحتاج إلى فهم هذه السياقات التاريخية حتى يتمكن من تقديم رؤية فقهية متوازنة تحقق مقاصد الشريعة في حماية الدين، وفي الوقت نفسه تراعي السياقات الحقوقية المعاصرة التي فيها ما هو منسجم مع الفطرة والشرع، وفيها ما هو مناقض تمامًا للفطرة وناقض لأحكام الشرع القطعية، حتى يحقق الفقه المصالح الشرعية وليس المصالح الموهومة أو غير المعتبرة شرعًا.
ومن جهة أخرى، تُعدُّ مسائل العلاقات الدولية وأحكام السلم والحرب من القضايا التي تحتاج إلى فهم تاريخي عميق، لأن الآراء الفقهية لم تكن ثابتة في هذا المجال، بل كانت تتطور تبعًا للظروف السياسية والعسكرية مع احتفاظها بالاحتكام إلى الأصول الشرعية. فعلى سبيل المثال، عند دراسة مسألة أحكام الجهاد، لا يمكن الاكتفاء بالنظر في النصوص الفقهية الموروثة دون النظر في السياقات التاريخية التي وردت فيها. فمن الأئمة مثلاً من كان يرى أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو الحرب، بينما كان أئمة آخرون يرون أن الأصل هو السلم، وهذا الاختلاف لم يكن مجرَّد اختلاف نظري، بل كان مرتبطًا بالسياقات السياسية في وقتها. وعليه، فعند معالجة قضايا مثل المعاهدات الدولية والتحالفات السياسية في العصر الحديث، يحتاج الفقيه إلى النظر في كيفية تعامل الدولة الإسلامية مع هذه الأمور في العصور السابقة، ليستفيد من السوابق التاريخية في إصدار أراء فقهية معاصرة تستند على قطعيات الشرع وكلياته، وتتماشى مع مقاصد الشريعة، وتحقق مصالح المسلمين وتحمي بيضة الإسلام.
4. الخاتمة
ما نختم به نقاشنا هذا، هو القول بأن علم التاريخ ليس مجرد علم تكميلي للفقيه، بل هو ضرورة لا غنى عنها لفهم الفقه الإسلامي في سياقاته الاجتماعية والتاريخية وإنتاج فقه جديد. فمن خلال دراسة التاريخ، يستطيع الفقيه أن يميِّز بين كيفية إعمال الأحكام الثابتة والآراء المتغيرة، ويفهم أسباب اختلاف الفتاوى بين الأزمنة والأمكنة، ويستخلص العبر من تجارب الأمم السابقة، مما يجعله أكثر قدرة على الاجتهاد الفقهي بطريقة واعية ومتجددة. وعلى الباحث في الفقه الإسلامي أن يجعل من التاريخ جزءًا أساسيًا من أدواته البحثية، اقتداءً بالأئمة الكبار مثل الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، الذين أدركوا أن الفقه لا يُبنى فقط على النصوص، بل يحتاج أيضًا إلى فهم دقيق للواقع والتاريخ.
والأمر يقال على الفقه بمعناه العام؛ الذي هو فهم كتاب الله وسنَّة رسوله، وفهم سنن الله في الآفاق والأنفس والتاريخ والهداية، التي تحكم أحوال الأمم والمجتمعات والدول والأفراد وتصرّفها بإرادة الله. ولذلك نجد في القرآن الكريم تناول لقصص الأمم السابقة بما توفره من مادة تاريخية تعرف بها أحوال الأمم، وكيفية التعامل مع الظواهر التي عرفتها، والقوانين الناظمة لها. وكما يقول صاحب المنار، فقد أَجْملَ القرآن الكلامَ عن الأُمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمالٌ صادر عمَّن أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلمًا، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالاً، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنَّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة " (المنار: 1/23).
وهذا الذكر لقصص الأمم السابقة في القرآن له هدف "بيانُ سُـنَّةِ الله تعالى في استعداد الناس النَّفسي والعقلي لكلٍّ من الإيمان والكفر، والخير والشر، والهدى والضلال، وفي عاقبة الكفر والجحود والغيِّ والظلم والفسوق. وبيان سنن الله تعالى في الطباع والاجتماع، والتقدير والتدبير العام، وما في خلقه للعالم من الحكمة والرحمة والنظام والعدل العام، وعدم مُحاباة الأفراد ولا الأقوام في نعيم الدنيا ونقمتها، ولا في الجزاء على الكفر والمعاصي، والإيمان والطاعات في الآخرة" (المنار:12/42).
وهذا يجعلنا نقول أيضًا، أنه ينبغي أن نضع في حسباننا العلم بالتاريخ في فهم الفقه وإنتاجه، وأن نفرق بين الأحكام الشرعية الثابتة وبين الآراء الفقهية، وأن ننتبه إلى بُعدَيْن مهمَّيْن في الفقه؛ أولهما أن الفقه هو تفاعل بين مصدرية (القرآن والسنة) لدينا وبين الحالة التاريخية (أحوال المعاش وطبائع العمران وتبدلات الظروف وتغير مقتضيات الاجتماع الإنساني)، وثانيهما أن يتم توسيع مفهوم الفقه بحيث يصير مفهومه يتضمن ضبط حركة المسلم في حياته وفق هدايات القرآن والسنة.