يبحث كثير من الشباب عن مساحة القبول الديني التي يستطيع أن يجمع فيها بين رضا الله ونجاحه في عمله في درجة من الاعتدال، خاصة في التخصصات الرقمية اليوم، وهذا الأمر بلا شك مُبشر وواعد بمستقبل أفضل للمسلمين عموما بسبب حضور مطلب الوعي الديني إلى جانب مطالب الدنيا الأخرى.
ولكن ومع وجود هذه الإرادة الإيجابية في الإقبال على الدين والدنيا إلا أن الشباب يجدون أمامهم عقبات وصعوبات مردها إلى التدين المزيَّف، الذي جاء به فهمٌ سقيم مأزوم، أو قصور في العلم، أو جهل في فهم مقتضيات الواقع، فضلا عن آفات نفسية، نسلت كلها من تراكم قديم لبعض أنظار التراث التي تحجرت وتجمدت، أو ارتآها البعض ملبية لعجزه واكتفائه بمنطقة الراحة بعيدا عن صخب الحياة وتحدياتها.
ونجد من مظاهر التدين المزيف فتاوى وآراء عجيبة منها:
1- الانشغال بالعلوم الشرعية خير من الانشغال بأمور الدنيا وعلومها.
2- جعل العقيدة الإسلامية صعبة وتحتاج إلى جهد، حتى فسدت بداهتها التي كانت سبيل إسلام الناس.
3- الركون إلى الزهد والبطالة بدعوى التقرب إلى الله
4- إدانة التقنيات الرقمية الحديثة لأنها مدخل للشيطان
5- دعوة الأكادميين وأهل التخصصات العلمية للانشغال بالعلوم الشرعية على حساب إبداعهم في تخصصاتهم التي تحتاج الوقت والجهد والتركيز الشديد، والتي هي الأمل في الوصول
إلى الاستقلال الوطني في هذه تخصصات فاتتنا كصناعة الأدوية وتطوير التقنيات المتنوعة في شتى التخصصات ضمن مؤسساتنا.
6- التشدد والغلو في التدين برفع السنن إلى مقام الفروض، وجعل طريق الجنة أضيق من أن يستوعب رغبات الدنيا ومقاصد الآخرة.
7- عَقْدَنة الفقه ، فأصبحت الأحكام الفقهية = المعروفة عند جميع علماء الأمة قاطبة أنها ظنية وخلافية وفيها سعة الأخذ والترك = تصوراتٍ عقدية قد يُكفَّر بها المرء.
8- موقف غريب يرى أن كل جديد هو محل نظر حتى تثبت براءته، وهذا يشمل أعمالا وتخصصات واختراعات وثقافات وعادات كثيرة، فصاحب هذا الموقف لا يتصور العظمة
الحضارية التي دعا إليها القرآن والتي تستوعب التنوع والاختلاف والجديد.
كل هذه الآفات والأمراض تَحُول دون تقدم الشباب المسلم المعتدل في تدينه إلى خطوات النجاح في حياته العملية وتخصصه العلمي، ما يستدعى أن نتوسل بتبصر عالمٍ رباني ثقة يكشف لنا زيف هذا التدين ويدلنا على وصية متى عملنا بها حققنا العمران والاستخلاف في الأرض من خلال وظيفتنا وشواغلنا الدنيوية.
ذكر الشيخ الغزالي -رحمه الله- أن الشباب المسلم محتاج إلى استعادة ثقافته الدينية بشكل لا يعود على حياته العلمية والعملية بالإفساد، وأكد على عناصر أو ممارسات متى تحقق بها الشباب اعتدلت شخصيتهم واتزنت نفسيتهم جامعة بين هموم الدنيا وواجبات الدين([1]):
- أن تكون العقائد أقل كَمًّا وكيفا، لا كما في الكتب التي تعرضها وتدخلها في مجادلات فارغة لا نهاية لها.
- أن تكون العبادات وعلومها سهلة الفهم وقريبة الأداء بلا مشقة متكلفة، فلا يُعقل أن نشرح باب الطهارة في مجلدات، فهذه بطالة مُقنَّعة تُضيع الأعمار وتصرف عن مهمات الحياة ومطالبها ومسؤولياتها.
- عدم المغالاة في الجانب الغيبي من الدين على حساب الجانب العملي والواقعي([2]).
- أن يبني الفرد نفسه على الأخلاق الفاضلة كما تُبنى المجتمعات على التقاليد الشريفة، مع العلم أن التربية على الفضائل والمكارم والقيم ركن من أركان الدين لابد أن يعود لمكانته في الأولويات.
- أن يتسع معنى الأخلاق والقيم ليشمل قيام الإبداع والإتقان والإحسان والتطوير.
- أن نفهم من خُلق الأمانة لا حفظ الوديعة فقط ، بل القيام بمهمات وظيفتي الرسمية أو عملي الخاص دون خلل أو تقصير، بل أن أطلب أسمى آيات الإنجاز فيه، وكلما زاد أثر الأمانة في حياة الناس زاد وجوب الحرص على تحقيقها، وكلما زادت أهمية الأمانة وثمراتها تأكد القيام بها على وجهها.
- أن يعلم أصحاب الاختصاصات الرقمية والذكاء الصناعي أن ما يقومون به هو من فروض الكفايات التي تجعل عملهم ضرورة شرعية، لا يجوز لهم أن ينصرفوا عنها إلى ما هو دونها، إنه يرتقي إلى قيم المقاصد التي يتوجب حفظها لأن بها تحفظ الأمة كيانها.
فهذه توجيهات رئيسة تقوم بالمسلم ومجتمعه، تُحقق له تدينه وصلته الصادقة مع الله من جهة ، وتحفزه على إتقان عمله وصنعته وإحسان تقديمها للناس، فيكون الدين وقتها أداة تُعين الشباب على إنجاز طموحاتهم ورؤاهم، دون أي تشكيك في التزامهم الشرعي ولا تقليل من أهمية ما يبذلونه من بحث وعمل وقدح لزناد الذكاء والنظر فيما بين أيديهم من منجزات.
يحث الشيخ الغزالي الشباب على العمل والبحث في شتى المعارف والحقول فيقول([3]):
".. فهم مطالبون بتطويع الحياة لخدمة الدين وتوجيه النشاط الفردي والجماعة لخدمة الرسالة العامة وتحقيق غاياتها، وإن الكدح لله تعالى هنا يتجاوز المسجد ليتناول الحقل والمصنع والمرصد والدكان والديوان والبر والبحر وما يكتب وما يسمع.. فالإسلام رسالة توجب على معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدر بالحياة وأقدر على النجاح".