اعرف نفسك

التصنيف

المقالات

التاريخ

05/04/2024

عدد المشاهدات

903

اعرف نفسك[1]

يروي أحد الشباب هذه القصة:

كنا طلبة ندرس في أمريكا، وكنت شاباً كحال الكثير من الشباب لا همَّ لي سوى العيش و«الوناسة» مع الأصدقاء، رحلات وطبخ ومتعة، وقليلٌ من الدراسة عند الاضطرار، حصلت على مقبول «خير وبركة»! لا شيء يهم، المهم أن أنجح والسلام. لم أكن أترك الصلاة، لكن بكل أريحية هي ركعات خالية من المعنى سوى إسقاط الفرض!، والجمعة أحضر المسجد، ولكن مُكْرَهاً أخاك لا بطل أيضاً إسقاطاً للفرض! وفي أوقات الفراغ الطويلة بين المحاضرات، وبدلاً من العودة إلى البيت، كنت أبحث عن مكان في الجامعة لتمضية الوقت فيه، لقيني صديق وزميل دراسة ذات يوم وقال لي: لماذا لا نجلس في المسجد؟ منها أجر ومنها «نشوف» الشباب، وبما أن أي مكان ينفع بالنسبة لي قلت لم لا!

ذهبنا للمسجد وجلسنا نتحادث، في أي مواضيع لا يهم، المهم أن الوقت يمضي ... وجاء طالب واثنان وثلاثة وأربعة ودار حديثٌ متنوعٌ انتهى بهم يتحدثون عن الإسلام، والغرب، والقدس، وفلسطين. كنت أستمع ولا أشارك، فأنا نادراً ما أجلس مع أحد يثير قضايا من هذا النوع، وإن حَدَثَ فهي مواضيع لا تهمني، تحدَّثوا وتناقشوا ... قلت حسناً أوضاعنا ليست جيدة، ماذا يعني؟ ومن يهتم؟ ومن يستطيع أن يغيِّر شيء؟ خليك في حالك (رزق الله على السيف إيش لك بالبحر وأهواله) ... مَثلٌ جيد لي في تلك اللحظة، لم أصدق أن ينتهي الوقت، وأذهب لقاعة المحاضرة، ولم يعلق في ذهني شيء مما قالوا!

مضت الأيام ... وجاء وقت الامتحانات، وامتحنا وظهرت النتائج، ناجحٌ على الحافة في كل المواد! مادة واحدة علقت في السكة، وعليّ أن أعيدها، استدعاني المشرف لمقابلته، وكان معه شابان واضح أنهما من اليهود المتديِّنين؛ ملابسهما واضحة، وقبعاتهما علامة مميزة. كانا غاضبين! فأصغيت السمع للحوار، أحدهما يسأل: لماذا حصل على علامة (أ) وليس (أ+)! والمدرس يقول هذا هو تقديري لإجابتك. والطالب يعيد: "من حقي أن أعرف ماذا يمكنني أن أعمل حتى أحصل على الدرجة في المرة القادمة على الأقل إن لم تكن هذه المرة!".

استمر النقاش لفترة ... حتى عرض الأستاذ أن يُرْسِلَ لهما ملاحظاته بالبريد الالكتروني، فوافقا على مضض! وجاء دوري للمناقشة، أخبرني المدرس بالنتيجة، وأراد أن يسمع مني شيئاً فشكرته وهممت بالانصراف! همهم الأستاذ، فحسبت أنه يتحدث إلي فوقفت قليلاً، وقلت له عفواً ... قال: أنتم شعب غريب!

صدمتني العبارة فقلت له متجهماً ... آسف ماذا تقصد؟

قال: واضح أنه لا يهمك أن تعرف لِمَ مستواك متواضع، ولا تريد أن تُحَسِّنَ مستواك، وليس لك هدف أو غاية في الحياة، الطالبان قبلك يهوديان، يريدان التفوُّق للعودة لخدمة إسرائيل، وأنت ألا تريد خدمة أي شيء!! لم أحر جواباً، تسمّرت في مكاني من الدهشة! لم أدرِ كم مضى عليَّ واقفاً، ولكن لم أَفُقْ إلا والأستاذ يغادر مقعده خارجاً، وأنا في مكاني متسمِّر!

تحركت من مكاني أجرّ رجلي، عقلي يكاد ينفجر، أحسُّ بغثيان، لا أستطيع التفكير، دموعي تطفح من عيني، جلست على أقرب كرسي، وتساءلت" من أنا؟".

مرّ شريط حياتي أمام عيني ... وعادت تلك الجلسة الحوارية في المسجد التي اعتقدت أني نسيتها لذاكرتي كشريط حي!

بداية الرحلة:

دخلت على شبكة الإنترنت، وتحدثت لصديق عزيز أثق فيه، رويت له مشكلتي، وحياتي، صَوَّرْتُ له ألمي، وسألته من أين أبدأ بفهم الحياة؟ كيف أعرف ما الذي ينبغي علي عمله؟ كانت إجابته: ابحث عن أصدقاء جدد، قلت له: لا عيب بأصدقائي، قال: أصدقائك صورة منك! وأنت لم تُحِبْ الصورة التي كنت عليها، ابحث عن من يشترِك معك في الهَمِّ، أحد عنده قضية، عنده موضوع يشغله، تلك هي البداية ... قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم اقرأ، قلت: عن ماذا اقرأ؟ قال: اقرأ عن من تريد خدمتهم، قومك ... ألَسْتَ عربياً مسلماً؟ ابدأ من هناك، اقرأ وكوّن صورة عن حال الأمة العربية والإسلامية، قلت: أي الكتب أقرأ؟ قال: ليس المهم أي الكتب الآن فقط ابحث عن أول كتاب يشرح واقع الأمة وأقرأ ... لكن لا تنسَ أن تجد أصدقاءً جدداً أولاً، وأخبرني عن تجربتك.

البحث عن الأصدقاء والقراءة:

عدت لمكتبتي الصغيرة، فلم أجد كتاباً يستحق القراءة، فهي مكتبة لا تحتوي إلا على كتابات متعلِّقة بالدراسة، ومعظمها لم أفتحها بعد حسناً، اتصلت بصديقٍ عزيزٍ وقارئ فسألته: أريد أن أقرأ، فمن أين أبدأ بفهم العالم العربي والعالم الإسلامي؟ فأجاب: أقترح أن تقرأ كتابين للشيخ محمد الغزالي أولاً:

A drawing of a person with glasses and a book

Description automatically generated

سألته أين أجدهما؟ قال: اطلبهما عبر الإنترنت، وإن لم تجد أعيرك الكتابين من عندي، طلبت الكتابين عبر الإنترنت، واستعرتهما منه حتى اشفي رغبتي الملحة! لأني لم أستطع أن أنتظر وصول الكتابين بالبريد. بدأت القراءة، ولم أستطع النوم تلك الليلة، فأنهيت الكتاب الأول! وبدأت في التهام الكتاب الثاني، أنهيت الكتابين في يومين! لكنها كانت جولة أولى فقط.

وصلت الكتب بالبريد فأعدت الكتابين لصاحبي، وعكفت على الكتابين مرة أخرى، وفي يدي قلم أسجل كل خاطرة وواردة. لقد كانت الكلمات تنحتُ في عقلي أخاديدَ تجري فيها أسئلة وأسئلة، وتتدفق فيها إجابات بعد إجابات... كان عالماً خلاّباً لم أتذوق مثله من قبل. كنت أُناقش صاحبي عبر الإنترنت، وأتردد على صاحبي القريب أناقشه فيما أقرأ، وتعرَّفْتُ على آخرين مهتمين بذات المواضيع، وتكوَّنت مع الكتب الصَّداقات الملائمة للمرحلة الجديدة.

هكذا بدأت الرحلة، رحلة التعرُّف على الذات... تَغَيَّرْتُ وتَحَوَّلْتُ لقارئٍ نَهِم، أصبحتُ طالباً مختلفاً وشخصاً مختلفاً تماماً.

وتساءلت أين كنت سابقاً، كيف عشتُ؟ وكيف تغيَّرْتُ؟

 

كتاب بداية جديدة ، ص 25 - 28

 

 

[1] ) د. جاسم سلطان، كتاب بداية جديدة ، ص 25 - 28

 

قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا كيف تشكل العبادات شخصية الإنسان