كيف تشكل العبادات شخصية الإنسان

التصنيف

المقالات

التاريخ

19/04/2024

عدد المشاهدات

570

الملف

تصفح ملف PDF

كيف تشكل العبادات شخصية الإنسان؟[1]

تمهيد

إنَّ المقاربة التي سنلقي الضوء عليها في هذا المقال، تعتمد على الطرح القرآني من خلال قضايا علم النفس؛ لنعطي قراءةً للبُعد التعبُّدي ودوره في بناء شخصيَّة الإنسان، وكيف يمكن أن يكون له محورٌ أساسيٌّ في تشكيل شخصيَّة الإنسان؛ بل ويتعدَّاه إلى بناء العمق الإنساني.

الهدف من ذلك هو أن نعطيَ معنىً عميقاً لمفهوم العبادة؛ إذ العبادة ليست مجرَّد ما يقوم به الإنسان مِن أداءٍ للفرائض بتنوُّع التكاليف المفروضة عليه، لذا يجب أن يُنظَر إلى العمق الذي يؤسِّس سلوكه، ويبني شخصيَّته إنْ هو أدرك هذه الأبعاد.

المحور الأول: هل ثمَّة علاقةٌ بين العبادات وبناء الشخصيَّة؟

لا بدَّ من الوقوف على تعريف كلٍّ من مصطلحَي: "الشخصيَّة، والعبادة"، ثم نعمَد للنظر في مدى التداخل الحاصل بينهما:

حقيقة (الشخصيَّة - Personality):

 ▪ من منظور علم النفس: لقد طُرحت العديد من التعريفات النفسية للشخصيَّة، والملاحظ أنه يوجد تداخلاتٌ وتبايناتٌ بين المدارس النفسية حول تعريف هذا المصطلح، لكن عموماً تُعرَّف على أنها: (الصفات الفرديَّة الداخليَّة والخارجيَّة، الثابتة نسبيَّاً[2]، التي تؤثِّر على سلوك الإنسان في المواقف المختلفة).

وقد أثبتت الدراسات النفسيه الحديثة أن البناء الشخصيَّ؛ سواءٌ الداخلي، أو الخارجي؛ وسواءٌ من الناحية البيولوجية، أو النفسية، هو بناءٌ نسبيٌّ؛ أي: أنه قابلٌ للتعديل والتغيير وإعادة التشكيل، ولا يمكن أن يكون هناك ثباتٌ بصفةٍ مطلقةٍ؛ لهذا بدأ علم النفس يتوجَّه إلى النظرة النسبية في مسألة الصفات الفردية الداخلية والخارجية.

 ▪ من منظور المفهوم الإسلامي: لم يفرِّق العلماء بين مفهوم الشخصيَّة ومفهوم الأخلاق؛ فمفهوم الشخصيَّة هو مفهومٌ حديثٌ نسبيَّاً؛ إذ لم يتطرَّق علماء الإسلام إلى هذا المفهوم قديماً بدقَّةٍ، فلهذا تجدهم يخلطون بين مفهوم الأخلاق ومفهوم الشخصيَّة، وهذا الأمر وإن كان يُظهِر خللاً في البناء المعرفيِّ، إلَّا أنه من جهةٍ أخرى، يعطينا معنىً عميقاً، وهو أنَّ الشخصيَّة -لكبير درجة تداخلها مع السلوك الظاهر الذي يتمثَّل في أخلاقنا وما ينتج عنه مِن معاملاتٍ- أصبح يُعتبر شيئاً متداخلاً لا يمكن التفريق بينهما.

 ▪ القرطبيُّ ومفهوم الشخصيَّة: ذكرنا أنَّ مصطلح الشخصيَّة حديث النشأة؛ لذلك نجد أنَّ الكثير مِن التعاريف الواردة في كتب الفلاسفة والعلماء المسلمين، من أمثال: ابن مسكويه، أو الغزالي، أو ابن خلدون، لا يفرِّقون بينها وبين الأخلاق في تعريفاتهم، لكنَّ القرطبيَّ رحمه الله في "تفسيره"، يعطي قراءةً متميِّزةً، قد تُمايِز بين الأخلاق والشخصيَّة؛ حيث إنه يرى أنَّ ما يأخذ الإنسانُ به نفسَه مِن الأدب، يسمَّى: خُلُقاً؛ لأنه يسير كالخِلْقة فيه، وأمَّا ما طُبِع عليه مِن الأدب، فهو: الخِيم؛ أي: السجيَّة والطبيعة، فيكون الخُلُق: الطبعَ المتكلَّفَ، والخِيمُ: الطبعَ الغريزيَّ. ونرى -والله أعلم- أنَّ الخِيم يقابل مصطلح الشخصيَّة بالمعنى الحديث.

إذاً؛ فالشخصيَّة بصفةٍ عامَّةٍ هي تلك السلوكيَّات الداخلية والخارجية التي تكون نسبيَّاً ثابتةً عند الإنسان، وهي التي يُعبَّر عنها من خلال تعاملاته، وسلوكيَّاته، وما يقوم به من أنشطةٍ.

حقيقة العبادة:

عرَّف ابن تيمية رحمه الله العبادة -ووافقه الكثير مِن العلماء- بقوله: (اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه، مِن الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة).

يُستفاد من هذا التعريف شموليَّة معنى العبادة لكلِّ حركات العباد وسَكَناتهم؛ فكلُّ فعلٍ أو تركٍ مِن المكلَّفين يمكن أن يكون عبادةً وقُربةً باستحضار النيَّة، وقصد الطاعة منه، وبموافقة الشرع في طريقة تطبيقه وأدائه.

هذا التعريف له عمقه الدينيُّ، وعمقه النفسيُّ والفلسفيُّ، وهما يتَّفقان على أنَّ الشخصيَّة: هي تلك السلوكيَّات التي تنبعث مِن الباطن ومن الظاهر، داخليَّاً وخارجيَّاً، ونراها كسلوكٍ أو كتصرُّفٍ ظاهريٍّ أمامنا، أو داخليٍّ قد لا نراه لكن نستشعره، وفي الوقت نفسه يتَّفقان على أنَّ العبادات هي كلُّ تلك الأفعال التي يرضاها الله ويحبُّها، وهي داخليةٌ وخارجيةٌ، أقوالٌ وأفعالٌ، ظاهرةٌ وباطنةٌ.

إذاً؛ فإنَّ هناك تداخلاً بين مفهوم الشخصية من جهةٍ، وبين مفهوم العبادة، وإنَّ هناك دوراً للعبادات بتنوُّعها وتعدُّدها في تركيب الشخصيَّة التي ذكرنا في بداية الأمر أنها نسبيَّةٌ، أي: أنها قابلةٌ لإعاده التشكُّل والبناء، وإعادة الصياغة.

 ▪ مفهوم السلوك الظاهري والباطني: ما معناه؟ وماذا نقصد به؟

يرى علماء النفس أنَّ السلوك في مجمله ثلاثة أنواعٍ: فكرٌ، وعاطفةٌ، وأفعالٌ خارجيةٌ.

هذه هي التشكيلة الخاصَّة بأفعال الإنسان الداخلية والخارجية، التي تنعكس في الشخصيَّة، أو تتأثَّر بالعبادة.

المحور الثاني: العبادات.. ومعادلة الفشل والنجاح في الحياة

هل العبادات مجرَّد شعائرَ لا علاقة لها بنجاح الإنسان وفشله في الحياة، أم أنَّ هناك عمقاً لمفهوم الفشل والنجاح في حياة الإنسان بارتباطها بالبُعد التعبُّدي؟

عندما نذهب إلى القرآن الكريم لننظر: كيف يكون الفشل والنجاح من خلال معادلة العبادات، نجد أنه راعى هذا التنوُّع في السلوك البشري الداخلي والخارجي، فجاء الخطاب القرآنيُّ ليعالج أو ليتطرَّق إلى هذه الأبعاد؛ حيث نجد التالي:

البُعد الفكريُّ في العبادات

وذلك من خلال مجموعةٍ مِن النصوص التي تؤكِّد عليها، فنجد بعض النصوص تتكلَّم عن:

 ▪ التدبُّر: وهو بُعدٌ تعبُّديٌّ فكريٌّ، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ ‌وَلَوۡ ‌كَانَ ‌مِنۡ ‌عِندِ ‌غَيۡرِ ‌ٱللَّهِ ‌لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 82].

 ▪ التفكُّر: كبُعدٍ تعبُّديٍّ فكريٍّ؛ أي: نتعبَّد الله عن طريق الفكر الذي يُعتبر جزءاً مِن أجزاء السلوك، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ ‌قِيَٰمٗا ‌وَقُعُودٗا ‌وَعَلَىٰ ‌جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [آل عمران: 190-191].

 ▪ التأمُّل: قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا ‌نَسُوقُ ‌ٱلۡمَآءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا يُبۡصِرُونَ﴾ [السجدة: 27].

إذاً؛ نجد أنَّ الله سبحانه قد أشار إلى مجموعةٍ مِن العبادات الفكرية؛ بمعنى أنَّ القرآن الكريم راعى الجانب الفكريَّ الداخليَّ في تعبُّد الإنسان، وفي تناوُل جانبٍ مِن جوانب العبادة، وهي: العبادة الباطنية أو الداخلية المتعلِّقه بالفكر.

التجلِّيات الفكرية للعبادات في البُعد الفكريِّ للشخصيَّة

 ▪ إعمال الفكر في قراءة الأحداث والتغيُّرات: إنَّ هذا السلوك مِن العبادات الفكرية لها تجلَّياتٌ فكريةٌ في الجانب الشخصيِّ؛ بمعنى: أنَّ هناك تجلِّياتٍ فكريةً للعبادات في البُعد الفكريِّ في الشخصيَّة، فمثلاً: قوله تعالى: ﴿‌أَفَمَن ‌زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ﴾ [فاطر: 8]؛ هنا في بعض حالات الإنسان قد يتقرَّب إلى الله تعالى، وينعكس هذا التقرُّب من خلال جهدٍ فكريٍّ، لتصبح شخصيَّته متميِّزةً بهذا البُعد الذي نصَّت عليه العبادة الفكرية؛ بمعنى: أنَّ الإنسان عندما يفكِّر في غيره، يندمج عنده البُعد التعبُّدي مع البناء الخاصِّ بالشخصيَّة، وأنَّ أعمال الفكر في قراءة الأحداث والتغيُّرات هو أيضاً مِن الجوانب التي تنعكس فيها العبادة في جانبٍ أو بُعدٍ مِن أبعاد الشخصيَّة: ﴿‌وَلَا ‌تَهِنُواْ ‌وَلَا ‌تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]؛ بمعنى: أنه إن كنتم مؤمنين، وبهذا البناء المعرفيِّ للإنسان، ستكونون ممَّن لا يهِنون ولا يحزنون عندما تأتيهم الشدائد والبلاء، وغيرها مِن الآيات والأبعاد والمعاني التي هي في حقيقتها انعكاسٌ للجانب الفكريِّ في البناء النفسيِّ للإنسان، والبناء الخاصِّ بشخصيَّة الإنسان.

البُعد الشعوريُّ العاطفيُّ في العبادة

فالله تعالى يتعبَّدنا:

 ▪ بالخوف: قال تعالى: ﴿‌وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

 ▪ بالرجاء: قال تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ ‌يَبۡتَغُونَ ‌إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا﴾ [الإسراء: 57].

 ▪ بالاستعانة: قال تعالى: ﴿‌إِيَّاكَ نَعۡبُدُ ‌وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].

 ▪ بالاستغاثة: قال تعالى: ﴿‌إِذۡ ‌تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9].

التجلِّيات الشعورية أو العاطفية للعبادات في البُعد العاطفي للشخصيَّة

كلُّ هذه الأبعاد السابقة عاطفيةٌ، وهي بالمقابل تتجلَّى في الجانب العاطفي للشخصيَّة؛ بمعنى: أنَّ هناك عبادةً فكريةً، وهذه العبادة الفكرية التي نتعبَّد الله بها، تتجلَّى في جانب الفكر في الشخصيَّة؛ فهناك جانبٌ تعبُّديٌّ عاطفيٌّ يتقرَّب به الإنسان إلى ربِّه، وهذا البُعد العاطفيُّ يتجلَّى بدوره في السلوك العاطفي لشخصيَّة الإنسان؛ فهنا مثلاً: التجلِّيات الشعورية أو العاطفية للعبادات في البُعد العاطفي للشخصيَّة نجدها في قوله تعالى:

 ▪ ﴿‌ٱلَّذِينَ ‌يُبَلِّغُونَ ‌رِسَٰلَٰتِ ‌ٱللَّهِ ‌وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا﴾ [الأحزاب: 39]؛ بمعنى: أنَّ تلك الخشية التي بناها الإنسان من خلال تقرُّبه وعبادته لله، تتجلَّى في شخصيَّته القوية الثابتة التي تجعله لا يخشى مِن أيِّ شيءٍ سوى الله سبحانه، فبالتالي نجد أنَّ معنىً مِن معاني العبادة العاطفية، تجلَّى في بُعدٍ عاطفيٍّ في شخصيَّة الإنسان؛ فهنا يظهر هذا الانعكاس بين البُعد التعبُّدي بفروعه المتنوِّعة في سلوك الإنسان المشكِّل لشخصيَّته في فروعه المتعدِّدة.

 ▪ ﴿‌مُّحَمَّدٞ ‌رَّسُولُ ‌ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ..﴾ [الفتح: 29]؛ فهنا انعكست صفة الرحمة، بعد أن كانت عبادةً في سلوكٍ شخصيٍّ يمثِّل التوجُّه السلوكيَّ والشخصيَّ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

البُعد السلوكيُّ في العبادات

هذا الأمر نجده أيضاً يتمثَّل كبُعدٍ سلوكيٍّ في الجانب التعبُّديِّ الذي يقوم به الإنسان، مثال: الصوم، الزكاة، الحج، وغيرها من السلوكيَّات التعبُّدية التي يقوم بها الإنسان، ستجد لها تجلِّياً سلوكيَّاً في شخصيَّة الإنسان، فقوله تعالى: ﴿‌لَّيۡسَ ‌ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]؛ فهذا السلوك الذي يقوم به الإنسان، نجد فيه تداخلاً بين ما يقوم به من عباداتٍ في جوانبها الثلاثة المتعدِّدة التي ذكرناها في بُعدها: الفكري، والعاطفي، والسلوكي الفعلي، وبين الشخصيَّة بما تحتويه من أبعادٍ ثلاثةٍ.

إذاً؛ نجد هنا هذا التكامل بين الجانب التعبُّدي والجانب السلوكي المؤسِّس لشخصيَّة الإنسان.

تأمُّلاتٌ سيكولوجيةٌ في ثلاثية الصوم عند الغزالي رحمه الله، الأبعاد: السلوكية، العاطفية، الفكرية

هنا نأتي إلى المعنى الذي ذكره أبو حامدٍ الغزاليُّ رحمه الله كنموذجٍ للصيام، لكي نفهم كيف أنَّ العلماء رحمهم الله كانوا على درايةٍ بهذا التأسيس الداخلي للإنسان ولهذه الأبعاد، فكيف يمكن للإنسان أن يصوم عاطفيَّاً وفكريَّاً وسلوكيَّاً؟ هذا ما عبَّر عنه الغزاليُّ رحمه الله من خلال حديثه عن أنواع الصوم:

 ▪ صوم العموم: وهو صومٌ يتعلَّق بالجوارح، وبالمعاني السلوكية الواضحة؛ إذ هو كفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة.

 ▪ صوم الخصوص: وهو -نوعاً ما- أدقُّ؛ بحيث إنَّ الإنسان يحاول أن يُبعِد كلَّ أدواته المعرفية عن الاحتكاك بأيِّ شيءٍ يُخِلُّ أو يُفسِد صيامه؛ إذ هو كفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرِّجل وسائر الجوارح عن الآثام.

 ▪ صوم خصوص الخصوص: وهو صوم القلب عن الهمم الدنيَّة، والأفكار الدنيوية، وكفُّه عمَّا سوى الله عزَّ وجلَّ بالكلية، وهذا يتطرَّق إلى العمق العاطفي والعمق الفكري للإنسان، فبقدر ما يكون الإنسان على درايةٍ بالأبعاد العميقة الثلاثة للعبادة، سيكون لها أثرٌ بالمقابل في أبعاد الشخصية التي يتَّصف ويتَّسم بها.

المحور الثالث: العبادات والعمق الإنسانيُّ للإنسان

إنسانٌ.. ولكن!

الإنسان: ليس هو ذلك الحيوان منتصب القامة، عريض الظفر، أملس البشرة، ضاحك الوجه، ممَّن:

 ▪ ينطقون: لكن عن هوىً.

 ▪ يتعلَّمون: لكن ما يضرُّهم ولا ينفعهم.

 ▪ يعلَمون: لكن ظاهراً مِن الحياه الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون.

 ▪ يكتبون الكتاب بأيديهم: ولكن يقولون هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً.

 ▪ يجادلون: لكن بالباطل؛ ليُدحِضوا به الحقَّ.

 ▪ يؤمنون: لكن بالجبت والطاغوت.

 ▪ يعبدون: لكن من دون الله ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم.

 ▪ يبيِّتون: لكن ما لا يرضى من القول.

 ▪ يأتون الصلاة: لكن كسالى، ولا يذكرون الله إلَّا قليلاً.

 ▪ يصلُّون: لكن مِن المصلِّين الذين هم عن صلاتهم ساهون..

هذه المعاني وغيرها ممَّا ذكرها الأصفهاني رحمه الله في كتابه "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" تبيِّن لنا حقيقة العمق الإنساني؛ فالعبادات التي تشكِّل شخصيَّة الإنسان، يذهب الأصفهاني بها مذهباً أعمق؛ حيث يرى أنَّ العبادة هي التي تؤسِّس إنسانيَّة الإنسان؛ إذ الإنسان في تصنيفه ضربان: عامٌّ وخاصٌّ؛ فالعامُّ هو كلُّ مَن يوصَف بأنه منتصب القامة، مختصٌّ بقوَّة الفكر واستفادة العلم. أمَّا الخاصُّ: فهو مَن عرف الحقَّ فاعتقده، والخيرَ فعمِل به بحسب وُسعه، وهذا معنىً يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون فيه تفاوتاً بعيداً، وبحسب تحصيله من قِبَل الإنسان، يستحقُّ إنسانيَّته، فيقال: فلانٌ أكثر إنسانيَّةً. وعليه؛ فإنَّ تحصيل أو استحقاق الإنسان لمفهوم الإنسانيَّة، يكون من خلال معرفة الحقِّ واعتقاده، والخير والعمل به قدرَ الاستطاعة.

إنَّ الكلام الذي أورده الأصفهاني رحمه الله بهذا الخصوص يعطينا هذا العمق؛ عمقَ الفكر، وعمقَ العاطفة، وعمقَ السلوك في العبادة، وكيف أنها تشكِّل لنا شخصيَّة الإنسان؛ بل وتتعدَّى ذلك إلى بناء عمقه الإنساني.. الذي إِن فُقِد، فُقدت معه إنسانيَّة الإنسان: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].

 

تحرير د. إياد محمد صبحي دخان

[1] أصل المقال محاضرة للدكتور إبراهيم بو زيداني، تجدونها على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=SadN7IVjsMc&t=2850s

[2] قوله: "الثابته نسبيَّاً"، يُخرِجنا من معضلةٍ كبيرةٍ في علم النفس، وهي التي أراد أن يفرضها التوجُّه المادي، وهي الحتمية البيولوجية؛ حيث أرادوا أن يجعلوا الإنسان بعيداً عن أيِّ سيطرةٍ خارجيةٍ؛ بحيث إن الإنسان هو صنيعة البناء البيولوجي الخاصِّ به؛ بمعنى: أنه إذا خُلق الإنسان لصَّاً، سيكون لصَّاً إلى نهاية حياته، وإذا خُلق الإنسان صالحاً، سيبقى صالحاً إلى نهاية حياته.

اعرف نفسك الماتريكس The Matrix