تتجاوز حرب غزة -اليوم- أن تكون حدثاً إلى كونها منعطفاً تاريخياً مؤثراً في مساحات من الواقع والجغرافيا مترامية الأطراف، وأكبر بكثير من مساحة غزة الصغيرة، ولكن هناك منعطف أكثر تأثيراً يتحقق في "الوعي" العربي والإسلامي، فضلاً عن "الوعي" العالمي ككل.
وهذا الأثر في الوعي أبلغ أهمية من أثر الجغرافيا والتراب، ذلك أنه يرتد ليعيد بناء التصورات والاهتمامات وليس المصالح فقط، إنه مراجعة لـ"المعنى" ولقيم الحياة نفسها، سالكاً بها سبيلاً مغيراً لما هو سائد بفضل "الحداثة" والتنوير العلماني الذي جرد الواقع من المعنى وجرد المصالح من القيم.
والكيان الصهيوني القابع في أرض فلسطين يمثل بامتياز هذه الحداثة العلمانية القائمة على جبروت الأمر الواقع ومبدأ القوة فوق الحق، أو فلنقل إنه الثمرة الناضجة لها، ولكنها كذلك الثمرة المحرمة التي توشك أن تُنزل العقاب بهم وتُنزلهم من الجنة التي بنوها بعقولهم المبدعة وضمائرهم الميتة وموارد الآخرين المستولى عليها في فترة الكولونيالية المقيتة والمرعبة.
سؤال الوعي الجديد
يتخذ تجديد هذا الوعي مسارين أو مناسبتين:
مناسبة الوعي الإسلامي: (استعادة الديني الجامع بين الإعداد والتوكل):
الوعي الذي تتجدد فيه القوة والشعور بالذات وبعث قيمها المجمدة، من خلال مشهد الإعداد النفسي والمعنوي والمادي الذي أنجزته المقاومة الفلسطينية وخاصة في غزة، فها هي القيم الإسلامية في صناعة الذات المسلمة الآخذة بالأسباب والمتوكلة على رب الأسباب تؤتي ثمارها في مدافعتها لأحد أعتى جيوش العالم والمسنود بالجيش الأمريكي أعظم جيش في العالم وتوابعه من الجيوش الأخرى.
ما يعني أن قيم العمل الإسلامي مما يصح التوسل بها إن لم يكن هذا واجباً أصلاً، بدلالة الأوصاف التي تتحقق أثناء هذا العدوان الغاشم ومحاولة التحرير والصمود التاريخية، فنجد من الأوصاف الهجوم والتصدي والصبر والمصابرة والرضا والحمد والتضحية والاجتماع على كلمة الله والإصرار على طرد العدو ولو كلف ما كلف والتمسك بالأرض.
ونستطيع أن نوجز نموذج غزة بممارستين؛ المزيد المزيد من الإيمان، والمزيد المزيد من القوة.
مناسبة الوعي الغربي: (استعادة الضمير العالمي والفطرة، والبحث عن الديني):
وله جهتان تؤثران فيه؛ جهة ما يحصل على يد الكيان الإسرائيلي الغاصب وجيشه من إجرام و إبادة للشعب الفلسطيني، فقد بدأت فظاعة هذا الإجرام تُزيل الأستار والحجب التي وضعها التسلط الإعلامي الغربي وراكمها على عقل المواطن الغربي فلا تتكشف له الحقيقة، ولكن الحاصل أن حجم الإجرام فاق كلَّ وصفٍ فمزق الأستار والحجب عن وعيهم، فتحركت فطرة الرحمة وكراهية الظلم وحب العدل فيهم، فأخذت الجموع الغربية العلمانية والمتدينة تثور وتملأ الشوارع بمظاهرات واعتراضات وإدانات لمجازر الكيان الإسرائيلي في كل مكان، بل ذهبت إلى إدانة الخطاب الرسمي في أوطانهم الأوروبية والأمريكية الداعمة للإجرام الصهيوني أو المتغاضية عنه.
وأما ما يحصل من جهة أهل غزة المظلومين فقد كان يندرج تحت بند "القدوة الإسلامية" والشاهد الأمثل وإرشاد الباحث عن الحقيقة الدينية، ذلك أن تمسك المسلمين من أهل غزة بقيم دينهم وقت نزول البلاء والامتحان وظهورها في مقالهم وأفعالهم وصبرهم وحمدهم ورضاهم، قد هز وزلزل قلوب وعقول الكثير من أهل الغرب ممن كانوا محاصرين في قيم الاستهلاك والشهوة والمادية الصلبة التي حاصرت الروح وأفقدتها بوصلتها الإيمانية، فضلاً عن شيطنة المسلمين في الإعلام، فوجدنا الكثير من التائهين عن الله قد وجدوا وجهتَهم أخيراً وشعروا أن قلوباً مثل قلوب أهل غزة لا يمكن إلا أن تكون قد عرفت وتمسكت بالحق، وأن الحق عندهم لا عند غيرهم، فقام البعض وأعلن إسلامه طلباً لهذه القيم التي ظهرت في الإنسان الغزِّيِّ، ووجدنا بعضهم بدأ يشكك في السردية التي تروج فكرة أن الإسلام دين الإرهاب والإرهابيين، وبدأت السرديات المضادّة للصهيونية تفضحها وتنقضّ عليها.
كانت ثورة الطلاب والشباب في فرنسا وغيرها عام ١٩٦٨م ثورة لكسر تغول السلطات بمعناها الواسع؛ ثورة جنسية وقانونية وسياسية واقتصادية، ولكن يبدو اليوم أن ثورة الجيل الجديد في الغرب توشك أن تكون إنسانية أخلاقية خالصة.
ماذا بشأن وعي المجتمعات العربية؟
تتأثر المجتمعات العربية والإسلامية فيما يتعلق بالدين والإيمان بـ "الدرجة والكم والوجهة" وليس بـ"الكيف"؛ بمعنى أنها مجتمعات مؤمنة أصالة، ولكن اللافت في إيمان أهل غزة الذي أثّر في هذه المجتمعات هو الكم والعمق والتغلغل وشكل علاقة الإيمان بشبكة الإرادة والتصور والعمل
لقد بلغت المقاومة في غزة وشعبها الصابر مقام الجهاد الاكتمالي؛ وهو الجهاد الذي لا ينحصر مدلوله في "الجهاد القتالي" بل يشمل كل فعل قام على بذل أقصى الجهد من أجل صلاح الأمة. وكما يرى "الدكتور طه عبد الرحمن" أن هذا الجهاد يقوم على أركان أربعة هي: "طلب المحبة" بجعل كل جهد مبذول محبوباً لله وبجعل الأمة المجاهدة محبوبة لدى غيرها من الأمم، و"تحصيل الإخلاص" و"التعلق بالحرية" و"التحلي بالصبر".
وكما هو معلوم إن الإيمان يزيد وينقص بقدر الصدق في القول والصدق في العمل وبقدر ما يشرف الفعل بقدر ما يشرف الإيمان ويكتمل، فما بالك لو كان هذا العمل هو الجهاد المسدد من الله؟ فلا شيء وقتها يعلو على هذا الإيمان، لذلك كان الواجب على بعض المجتمعات الإسلامية أن تطلب هذا المقام من الإيمان الاكتمالي لتخرج مما هي فيه من أمراض سياسية واجتماعية واقتصادية، ولتخرج من مثلث الموت الذي يتضمن الفقر والجهل والمرض، ولتخرج من ثلاثية الانكسار والانحسار المتضمنة التبعية للخارج وسوء توزيع الموارد والاستبداد السياسي.
إن تجربة غزة مثال حي أمامنا لنقف كطلاب علم وعمل أمامها، ولا شك أن تحليل تجربة غزة وخاصة المقاومة الإسلامية والتي امتدت لما يفوق الأربعة عقود من الإعداد ستقدم لنا آليات وطرائق فاعلة ومثمرة لإعادة بناء الذات الإسلامية من خلال تشغيل الإيمان على وجهٍ من الصحة والكمال، والذي سيحقق الشهود الحضاري للأمة الإسلامية، مع العلم أن هذا الشهود أو الإشهاد هو تكليف من الله إلى الناس بمعنى أنه أمانة ائتمنها الله عند المسلمين ولا بد من حفظها والتحقق بشروطها يقول تعالى: " كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
ونستطيع أن نقول: إن هناك جمعاً من القيم الكبيرة يقوم عليها نجاح الفعل الغزّي أول منعطف غزة:
- قيم الإيمان من خلال تجديد الإيمان في نفوس الجيل واستعادة التوحيد كنموذج فائق للحياة.
- وقيم الإرادة وتتضمن الإعداد النفسي وتوفير الموارد والخبرات وبناء تصورات جديدة لممكنات التغيير والانطلاق العسكرية والسياسية.
- قيم الفعل ومقتضاها التحقق بقيم الإيمان الفائقة وقيم الإرادة الممكنة مُؤذن بإنجاز الأفعال والأحداث في أرض الواقع وضمن شروط الفلاح والنجاح.
وكلمة أخيرة للعبرة القادمة:
وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي لأسباب تاريخية وجغرافية واقتصادية وعالمية، وبقيت على هذه الحال ما يتجاوز القرن من السنين أي أجيالاً متعاقبة ترزح تحت هذا السلب والنهب والطرد، ثم ننظر إلى حجم الإصلاحات التي وضعت من أجل رفع هذا الوضع الشاذ والجهود التي بُذلت فلا نحصل على كبير شيء، بل المشاهد أن الواقع الشاذ هذا يتغلغل ويتعمق ويتجذر بسبب غياب أي فاعل سياسي وطني جاد، لذلك ما كان من نواة المقاومة الإسلامية قبل 40 سنة أو يزيد إلا أن وضعت تصوراً استراتيجياً طويل المدى مع ما تضمنه من خطط تكتيكية مرحلية تقوم على التجربة والخطأ والتَّعلُّم، وكانت نتيجة هذا الجهد الذي أخذ عشرات السنين من العمل الجاد والبناء والتضحية أن حدث منعطف (7 أكتوبر) والذي صدم العالم قبل أن يصدم الكيان الإسرائيلي، إنه ثمرة الإيمان والإرادة والفعل.