بسم الله الرحمن الرحيم
الماتريكس - The Matrix[1]
المفهوم والتشكُّل (1)
تمهيد
كلمة "ماتريكس - Matrix": كلمة غريبة؛ تعني نسيجاً يحتضن حركة الإنسان في الحياة، يشكِّل وعيه وعقله، ويتحكَّم فيه من حيث لا يشعر. هذه القدرة نُطلق عليها: "الماتريكس - "The Matrix، أو المنظومة، أو الشبكه العامَّة، وهي التي نخضع لتأثيراتها، وللفاعلين فيها.
لا شكَّ أنَّ هذا العصر -كبقية العصور- تنشأ فيه شبكة مفاهيمية تصوُّرية، وضغوطٌ ناتجة عن تفاعلات العالم الذي نعيش فيه، وهي بدورها تؤثِّر على الإنسان في قراءته للأمور، وتصوُّره لها، وفي حياته، وتصرُّفاته؛ بل حتى في حدود ممكناته وغير ممكناته، فمثلاً: في العصور الوسطى، لو خرج الإنسان من بلدٍ إلى بلدٍ، أصبح من أهله خلال أشهرٍ ونُسب إليه. أما اليوم، فقد يعيش أحدهم في بلدٍ ما سنواتٍ عديدةً دون أن ينتمي إليه، وما إن تنتهِ إقامتُه، اضطرَّ إلى المغادرة.
إذاً، فقد تغيَّر العصر، وتغيَّرت صورته، والفواعل فيه. وفي كل الأحوال، هي تؤثِّر على الإنسان سلباً أو إيجاباً.
مقاربة تاريخية لتشكُّل هذه المنظومة
كما أنَّ الحضارة الإسلامية كانت تشكِّل المنظومةَ العالمية في يومٍ من الأيام، وكذا الحضارة الصينية.. وغيرهما؛ فالغرب اليوم، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، يشكِّلون هذه المنظومة العالمية، وهي تمثِّل النموذج الآسِر لهذه الحضارة؛ سواءٌ وافقنا عليها، أم لم نوافق، حتى الكارِه والشاتِم لها، فهي عالقةٌ في ذهنه، وهو غير قادرٍ على التخلُّص من هواجسها.. هو كارهٌ لها، إلَّا أنَّ سلاحه، ودواءَه، وتعليمه، وكلَّ احتياجاته، آتيةٌ من هذه المنظومة.
الغرب في نشأته الأولى، كان عبارةً عن مجموعة قبائل كبيرةٍ تدور في أوروبا، قبائل متوحشة أقلَّ تقدُّماً من المجتمعات الأخرى في عصورها الذهبية، فالعالم الإسلامي من جهته في عصره الذهبي، والغرب من جهته في غاية الانحطاط.
وقد عمد اليونانيّون -الذين كانوا على طرفٍ من أطراف هذه القبائل الأوروبية- إلى التقاط بذور الحضارة من الفينيقيِّين في لبنان، ومن السوماريِّين والبابليِّين في العراق، ومن الحضارة المصرية، وقد كان طلبة اليونان يتواردون إلى الدراسة في هذه البلاد، فنقلوا الأفكار إلى بيئتهم، وأحدثوا نقلةً حضاريةً؛ فكوَّنت بذلك اليونانُ فلسفةً تفرُق عمَّا كان في مصر والصين، ووضعت حواراتٍ تدعم أفكارها، تحوَّلت من الحكمة إلى الفلسفة، وأضافت الفلسفة إلى الحضارة الإنسانية، وفكّرت في شكل الدولة الأوّلي، وأطلقت عليها جمهورية "أفلاطون"، فكّرت كيف تُدار السياسة، ونظَّرت لها تنظيراً جيداً، وقد بقي هذا إرثاً إنسانيَّاً يُدرَّس إلى يومنا هذا.
ميزة الحضارة اليونانية أنها أضافت بُعداً فلسفيَّاً وعمقاً فكريَّاً في العالم الذي يعيشون فيه، علماً أنَّ الحضارة اليونانية حضارةٌ وثنية في شكلها العامّ، تؤمن بالأجساد، والمنحوتات، والأشكال الجميلة الموجودة، حضارةٌ حسية مادية بشكلٍ من الأشكال.
ورث الرومان هذه الحضارة الحسية عن اليونان، وأضافوا إلى المعادلة عنصر: "العسكرتاريا"، وهي الإيمان بالسلطة المطلقة للجيش والقوات العسكرية، ومعها المباني الفخمة الفارهة التي نراها في روما، هذا كله يدخل كجزءٍ من تكوين الحضارة الأوروبية، ويضاف إليه عنصر القوة المهم جدَّاً.
وقد كانت روما تعتبر عاصمتها عاصمة العالم؛ فخيرات العالم أينما كانت، تصل إلى روما، وكل الطرق تؤدّي إلى روما، وهي مثال القوة والعظمة[2].
ينتهي هذا الفضاء الأوروبي، ويبدأ العصر الثاني في الحضارة الرومانية بدخول المسيحية، فبعد /300/ سنةٍ من ميلاد المسيح، تدخل المسيحيةُ إلى روما كديانةٍ رسمية، ويظهر خطٌّ ثالثٌ تتمثَّله المسيحية بشكلها الصوفي الملتبِس بالسياسة، المتمثِّل بالرهبنة، وترك الدنيا، والتبتُّل، وتعذيب الجسد.
وفي الوقت ذاته، وجدت الكنيسةُ أن الناس يجب أن لا يتعلَّموا؛ لأنهم إذا تعلَّموا، سيتعلّمون الفلسفة اليونانية، وسيناقشون الكنيسة، ويحاربون الدين، فأغلقت مسارات الكتب والقراءة، وهكذا صادرت الكنيسة عقل الإنسان وروحه وجسده.
ثم كانت الثورة التي قامت للتحرُّر من هذا النمط من التديُّن في أوروبا، فكان عصر النهضة الذي شكَّل ارتداداً ضخماً جدَّاً لليونان والرومان، الإيمان بالعظمة العسكرية وبمتعة الجسد والتحرُّر من الكنيسة، كدورٍ وسيطٍ، فظهرت البروتستانتية، وبدأ الفضاء الأوروبي العام يتحرَّر من فكرة أهمية الدين لصالح العقل، وهذا ولَّد عندهم ما يسمَّى: عصر التنوير، عصر الاعتماد على العقل والثقة به. وهذا العصر وعد الإنسان بإيجاد حلولٍ لمشاكله الكبرى من فقرٍ وجهلٍ ومرضٍ وحروبٍ، شرط أن يستمرَّ في مسار العقلنة بعيداً عن الوحي الذي كان -من وجهة نظره- سبب نشوب الحروب الأهلية فيما بينهم، هذا الوعد الكبير شكَّل جزءاً كبيراً من أوروبا، وهو الذي يسمُّونه: العقلانية.
إذاً؛ ستلتقي لدينا عدة خطوطٍ في "الماتريكس - "The Matrix: خط الفلسفه، خط المتعة الجسدية، خط القوة الساحقة، خط التمرُّد على الدين، خط العقلانية، وهذه الخطوط ستتشكَّل بمجموعها في الفضاء الأوروبي الغربي.
في هذه الفترة من القرن الرابع عشر، تولَّد مع حركة الكشوف الجغرافية خطٌّ اقتصاديٌّ تحوَّل بعد مدَّةٍ إلى الرأسمالية بشكلها الحالي، لتولِّد فكرة "سرقة العالم لإيصال الأموال إلى المركز؛ فالأوروبيّون يذهبون إلى الأمريكيّتين والهند، ويحصِّلون ثرواتٍ ضخمةً، ويسرقونها، ثم يرجعون بها إلى أوروبا.
نظر المجتمع الأوروبي إلى الشعوب خارج المجتمع الغربي على أنها شعوبٌ بربرية، وأن له الحقَّ في سلب مواردها، وهذا جزءٌ من فكرة روما، التي ترى أنَّ مَن كان خارج أسوار روما فهم برابرة، هذه الفكره تنغرس في العقل الأوروبي أيضاً، فكل من كان خارج أوروبا فهم برابرة، ويصل بهم الحدُّ إلى وصف الآخرين بالحيوانات، كما كانوا ينظرون إلى الأفارقة على أنهم ما قبل الإنسان المتحضِّر، ليس فقط من الناحية الثقافية، إنما من الناحية التكوينية الإنسانية؛ فهم ينظرون إليهم -من وجهة نظر اعتقادهم- أنهم شيءٌ آخر بين القرد والإنسان.
في القرن الثامن عشر، بدأ هذا البناء الفكري التصوُّري -خاصَّةً العقلنة، والانطلاق من أفق التصوُّرات الكنسيّة عن الوجود- التوجُّهَ إلى العلم المادي التجريبي، وفجأةً وجدت أوروبا أنها انفتحت على عالم الأسباب كما لم تنفتح عليه حضارةٌ أخرى من قبلُ، وأصبحت قادرةً على اكتشاف قوانين الفيزياء والكيمياء والاتصالات والمواصلات، وأصبحت حركة الأوروبي في العالم سريعة قوية نافذة بشكلٍ مهولٍ، ومن أثره أنِ احتلَّت بريطانيا العالم كلَّه تقريباً، نتيجة هذا التطوُّر الذي حدث داخل الحضارة الأوروبية، وفرضت -سواء بالهالة، أو بالتخطيط- نموذجها على الآخرين باعتباره النموذجَ الأوحد الذي يشكِّل العقل البشري، وربطت العالم كلَّه بقضية المركز والأطراف؛ فأصبحت أوروبا (ألمانيا وبريطانيا آنذاك قبل حضور أمريكا) مركز العالم، فيها: الصناعة، والعلم، والمعرفة، والبقية يُورِدون إليها الأفراد للخدمة، والموادَّ الأساسية الخام الرخيصة بالنسبه إليهم، بإرادتهم أو رغماً عنهم، وبالتالي تبنَّت فكرة وجوب احتلال العالم، وأن يعيدوا تنظيمه ليناسب البنيه الاقتصادية التي شكَّلوها.
إذاً، فقد تشكَّلت بنيةٌ اقتصاديه وفكرية، وحضورٌ عسكري للقوى الأوروبية، وتمَّ إعادة تشكيل العالم حتى يناسب الحضارة الأوروبية وما أنتجته، وأصبحت هي النموذج الآسِر في العالم والمثال المحتذى.
مع الحرب العالمية الأولى والثانية، انفجرت فكرة إمكانيةِ أن يكون للعقلنة دورٌ في حلِّ مشاكل الجوع والفقر والمرض، ولكن.. انفجار أوروبا فجأةً على بعضها في حربين عالميَّتين، مات فيهما /70/ مليوناً من البشر، عدا الدمار الذي خلَّفتهما، والانهيار الاقتصادي، وغياب الشباب والرجال من المجتمعات التي أُبيدت بالكامل. هنا أفاق الإنسانُ الأوروبيُّ على دمار كلِّ إنجازاته الحضارية التي دُمِّرت معها فكرة العقلنة أيضاً، وبرزت أسئلةٌ كبيرة عن دور الإله فيما حلَّ بالبشرية، وبدأت تظهر المدرسة الوجودية بأشكالها المختلفه، وبدأ البحث الحثيث لتحديد الإله المطلوب، هل هو الإله التقليدي، أم الإله الكوني؛ بمعنى: الروحاني؟ وهل هو مغايرٌ للإله في الدين المسيحي، أو الإسلامي، أو غيرها من الديانات الموجودة؟ وبدأت عملياتٌ تابعة لهذا الموضوع بعد هذا العصر، منها تشكَّلَ النظام الرأسماليُّ؛ حيث انتقل الناس من الريف إلى المدينة، ومع انتقال الشباب والبنات إلى العمل في المصانع، وتنقُّلهم من عملٍ إلى عملٍ، فَقَدوا القدرة على الارتباط وتكوين الأسرة، ونشأت فكرة "Girl Friend" و"Boy Friend" عوضاً عن مؤسسة الزواج والأسرة، وقلَّ عدد أفراد الأسرة. هذا النموذج صحِبته ثورةٌ ضخمة في الاتصالات، والمواصلات، والمعلوماتية، والفنون، والآداب، وكلُّها أخذت منحىً حسيَّاً وشهوانيَّاً.
هذا التشكُّل الضخم الذي بدأ يشكِّل العالم، أصبح هو "الماتريكس - "The Matrix، والجميع داخلٌ في هذه المنظومة العالمية، فهو يصنع ويبيع ليس فقط أشياء ماديةً؛ بل أيضاً أفكاراً ومخيالاً، طريقة تخيُّل العالم ورؤيته، وقد اشتغلوا على تشكيل هذه المنظومة من خلال الأفلام، والفنون، وكل شيءٍ تمَّ تفعيله وتسخيره لخدمة هذا الاتجاه.
مدى تأثير هذه المنظومة في حياتنا
تأثير هذه المنظومة اليوم ظاهرٌ في كلِّ شيءٍ؛ لأنَّها تشمل جامعاتٍ ذاتَ مناهجَ تعليميةٍ، وتحيط بنا من خلال شبكةٍ إعلاميةٍ، تصدِّر مفاهيمَ وتصوُّراتٍ وأشكالاً وأنماطاً من المخيال عن العالم، وتقرِّر نظاماً من التبادلات التجارية الدائرة في العالم تحكمها الفائدة الربوية، وهذا كله من التأثير العالمي الكوني على الإنسان في تشكيل النموذج المطلوب؛ فالحديث تعدَّى الاختيارات، اختيار الشكل، الحركة، السفر، الزوجة، الزوج، الحرية، الاقتصاد، كلَّ الخيارات، حتى اختياراتنا الفردية لم تعد حرَّةً. وهذا النظام تخلَّق عبر قرونٍ، وهو يتحكَّم في حركة الإنسان، وما من إنسانٍ يَسلَم منه اليوم، فبقدر ما هو إنسانٌ، بقدر ما هو يتفاعل مع الوسط الاجتماعي، وكما هو يحاول تشكيل المجتمع، أيضاً المجتمع يشكِّله.
والسؤال هنا: كيف سنتصرَّف في مثل هذا الوضع؟ وأيُّ درجةٍ من الوعي يجب أن نمتلك كي لا نكون ضحايا لهذه المنظومة، وإنما نكون جزءاً متفاعلاً معها، مع المحافظة على استقلاليَّتنا؟
هل "الماتريكس - "The Matrix فعلٌ مخطَّطٌ له، أم هو نتيجة تطوُّراتٍ تاريخيةٍ؟
هل كان هذا بفعل فاعلٍ وتدبير مدبِّرٍ خطَّط ودبَّر له ليصبح العالم بهذا الشكل؟ أم أنها عبارةٌ عن تطوُّراتٍ تاريخيةٍ لم يجدوا لأنفسهم بُدَّاً منها إلا أن يخضعوا لها؟
الجواب: أنها شبكةٌ تكوَّنت عبر التاريخ، وعبر ظروفٍ مختلفةٍ، جزءٌ منها مخطَّطٌ له، وجزءٌ كبيرٌ منها حدث بسبب التطوُّرات والصراع العالمي الموجود. حتى إن الإنسان الأوروبيَّ داخلٌ في هذه المنظومة، وحتى إن السياسيَّ والأستاذ الجامعيَّ الذي خطَّط أيضاً، أصبح داخلاً فيها.
علاقة منظومة "الماتريكس - "The Matrix بحقوق الإنسان
اعترى نشوء "الماتريكس - The Matrix" خللٌ بين الإطار الأخلاقي الذي تمثِّله الدولة، والإطار الأخلاقي الذي يمثِّله الفرد؛ فالفرد الأوروبي يتعلَّم في المدرسة حقوق الإنسان، الحريات، المساواة، الكرامة الإنسانية. أمَّا ما يتعلَّمه السياسيُّ، فهو أنَّ السياسة غير خاضعةٍ للاعتبارات والأخلاق الفردية، ويعتمد على عنصر "البرغماتية"[3]، وأنَّ القوة هي العنصر الأساسيُّ الحاسم في المعترك الدولي؛ فالمعترك الدولي غابةٌ فيها صراعاتٌ ضخمة تُحسَم بالقوة.
إذاً؛ فقد صار للحضارة الغربية جانبان؛ جانبٌ مُغرٍ للأفراد، يتمثَّل بالحريات والعدالة، وجانبٌ مُؤذٍ لغير الأوروبيِّين، وفي وقتٍ من الأوقات كان مُؤذياً لهم أيضاً، وهو الجانب السياسي. وأوروبا دفعت ثمن هذا الانقسام حربين عالميَّتينِ ضخمتين؛ إلى أن استطاعوا أن ينظِّموا أنفسهم من خلال الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم.
وبذلك دخلنا جميعاً في منظومة "الماتريكس - The Matrix"؛ حيث عنصر السياسة الدولية يعتمد على القوة وليس على العدالة، لكنهم في الوقت ذاته يمارسون التنظير الأخلاقيَّ في خطبهم السياسية، على الرغم من أنهم لا يخضعون لها؛ من منطلق أنَّ أيَّ حضارةٍ لا تمتلك مشروعاً ثقافيَّاً تعرِضه على الآخرين هي حضارةٌ عرجاء، لذلك قاموا بعرض قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية على الآخرين، وشكَّلوا مسطرةً لقياس مدى التزام الآخرين بها، وصاغوا مقرَّرات الأمم المتحدة والوثائق الرئيسية على أساس هذا الخطاب الراقي، إلا أنَّ الممارسة العملية المتمثّلة بالقوة والهيمنة وفرضها، وصل بهم إلى مرحلة التناقض التامِّ بين الخطاب الثقافي والفعل الخارجي، ممارسةٌ بلا عدالةٍ وبلا كرامةٍ إنسانيةٍ. وهذا ما يفسِّر لنا انقسام الغرب حاليَّاً حول أحداث غزة بين الشارع الأوروبي الذي يطالب بالإنسانية، وبين الخطِّ السياسي المختلِف تماماً؛ فجزءٌ كبيرٌ من المؤيِّدين لغزة وفق أحدث دراسةٍ هم في عمرٍ دون الخامسة والعشرين، وهؤلاء يدرسون في المدارس والجامعات مبادئ حقوق الإنسان والحريات، والنضال من أجل ذلك، بينما الخط السياسي يعمل على فكرة القوة؛ الأمر الذي أحدث انقساماً أساسيَّاً وجذريَّاً داخل الحضارة الأوروبية بين ما تربِّي عليه شعوبَهَا، وليس فقط ما تبشِّر به العالم من جهةٍ، وما يريده السياسيُّ من جهةٍ أخرى، هذا الصدام الضخم بين هذين الخطين؛ الخط السياسي الذي يمتلك أدوات القسر، والقانون، والمال، والسلطة..؛ بحيث إنه بدأ فعلاً بالتعدِّي على الحقوق داخل هذه المجتمعات وفرض آرائه بالقوة، وهو الذي صرَّح في خطابه السياسي التأييد المطلق للصهيونية، والخط الآخر الشعبي الذي كرَّس في خطابه مبادئ الحريات والعدالة، غير أنه اصطدم بحقائق التيار السياسي عبر الوسائل والتقنيات التي صنعها هو نفسُه كأدواتٍ يستخدمها لاضطهاد الشعوب.
منظومة "ماتريكس - "Matrix شرقية؟
هل نحن مقبِلون على "ماتريكس - Matrix" شرقية (روسيا - الصين)؟
لا أعتقد ذلك في المدى المنظور؛ فالغرب ما زال يمتلك زمام التقدُّم التقني والتفوُّق، والمعرفةُ والميزانيات البحثية لديه هي الأعلى في العالم، إضافةً إلى حرية الإبداع والفكر، وغير ذلك من الميزات. وفي المقابل، هو يعمل على إحباط أيِّ محاولةٍ تنافسيةٍ، ويوظِّف كلَّ قدراته لحجب أيِّ فرصةٍ من هذا القيبل.
وما حدث مع الحضارات الناشئة حديثاً، مثل: الصين، أو روسيا، أو دول جنوب شرق آسيا، أنهم خرجوا من داخل هذه المعمعة في شيءٍ من درجات التحكُّم؛ فاليابان مثلاً: تُحكَم إلى اليوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها داخلَ هذا النطاق حرَّرت طاقاتها وقدراتها، واستطاعت أن تصبح رقماً صعباً ينظر إليه العالم رغم كل الظروف؛ فالتقدُّم يتمُّ رغم الظروف، وليس بسبب الظروف.
انهيار منظومة "الماتريكس - "The Matrix!
كثيراً ما نسمع هذا الطرح، وهو أنَّ الحضارة الغربية مقبلةٌ على الانهيار، وحقيقة الأمر أنَّ كلَّ أمَّةٍ لها عمرها ولادةً وموتاً؛ فالحضارة الإسلامية انهارت رغم أنها تمتلك أعظم رسالةٍ سماويةٍ، إلا أنها وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وكذا الحال بالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي والصين؛ فالانهيار في أيِّ حضارةٍ من الحضارات واقعٌ؛ والسؤال المتبادر هنا:
هل تراجعُ حضارةٍ ما هو نتيجة تقدُّم الآخرين، أم أنها تبقى فاعلةً بقدر ما فيها من عوامل إصلاحٍ وقوةٍ ذاتيةٍ داخليةٍ، وبقدر قدرتها على إصلاح أحوالها؟
فمثلاً: في القرن التاسع عشر أحدث "ماركس" النظام الشيوعي، وتكلَّم عن انهيار الرأسمالية، وأعلن أوان قيام المنظومة الاشتراكية الشيوعية لتغطي العالم، وقام بعملٍ فلسفيٍّ ضخمٍ أثَّر في الفكر الإنساني بشكلٍ كبيرٍ، وجوهره: انهيار الحضارة الغربية الرأسمالية لصالح النظام الشيوعي، ورهانه على ذلك قائمٌ على أنَّ الفجوة بين الأغنياء والفقراء في أوروبا ستزداد، وسيثور الناس على هذا النظام، وسيتبنَّون النظام الاشتراكيَّ.
في هذا الوقت تنبَّهت أوروبا في تلك اللحظة التاريخية إلى واقعها، فحسَّنت أوضاع العمَّال، وأعطتهم حقوقهم، ومنحتهم رواتب التقاعد، وأنشات لهم المظلَّة الصحية، ووسَّعت دائرة الصرف على الأطفال وعلى الشعب.. النتيجة: أن الثورة التي تكلَّم عنها "ماركس"، لم تقم في بريطانيا؛ بل قامت في روسيا، هذا البلد الفقير غير المحكوم بالرأسمالية المتوحشة! واستمرَّ كلام "ماركس" عن الرأسمالية وأنها ستسقط، وتردَّدت شعاراته: (يا عمَّال العالم اتحدوا.. فالغرب إلى انهيارٍ.. والحضارة الغربية إلى انهيارٍ..)، وما حصل: هو أنَّ الاتحاد السوفييتي انهار.. والحضارة الغربية بشقِّها الرأسمالي لم تنهر.
إن بقاء الحضارة الغربية كان نتيجة العوامل الصحية القائمة فيها، مقابل عوامل الفشل الشائعة في النظام الشيوعي.
والحضاره الأوروبية الحالية، هي ذاتها لديها مشاكلها وإشكاليَّاتها، وأيُّ نظامٍ بديلٍ -في حال وجوده- يجب أن يمتلك عوامل النهوض الحضاري ليحلَّ مكانها؛ فلَربما الصين، أو لَربما تحالفٌ صينيٌّ - روسيٌّ، يكون هو الأقرب في الفضاء الموجود لتأسيس عالمٍ جديدٍ، ونقول: (لربما)؛ لأنَّ السؤال الذي يتبادر لنا: ما الأفكار الشائعة في الصين مثلاً عن الحضارة والعدالة العالمية؟ حقيقة الأمر أنَّ الصين لا تمتلك مشروعاً ثقافيَّاً، وإنما تمتلك مشروعاً اقتصاديَّاً تعرِضه على العالم، وفي المقابل ما زالت الحضارة الأوروبية تشكِّل المنارة العلمية والثقافية، وما دامت تمتلك هذه العوامل، فإنها ستستمرُّ بقدر ما فيها من عوامل الصلاح؛ إذ إن عوامل الصلاح وعوامل الفساد في أيِّ حضارةٍ، إنما هي في صراعٍ مستمرٍّ، إلى أن يسقط عكَّاز الصلاح، فتسقط معه حضارةٌ كاملةٌ.
الحضارة الإسلامية كبديلٍ
لا بدَّ هنا أن نميِّز بين أمرين اثنين:
الأول: القرآن الكريم ونظامه العالمي؛ فالقرآن يمتلك عوامل النهوض، وبنيته الأساسية العدالة: ﴿وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25]، فهو مشروعٌ كونيٌّ إنسانيٌّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بالرحمة العالمية: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ فإذا كانت الحضارة الإسلامية ستقدِّم للعالمين مشروع العدالة والرحمة الكونية، فهي حضارةٌ متفوِّقةٌ أخلاقيَّاً، وإذا استطعنا أن ننتج الإنسان الذي يتمثَّل هذين المعنيَين، فإننا سننتج الإنسان الذي أراده الله سبحانه ليعمُر الأرض، والذي يمثِّل الإنسان في نهاية نموِّه الحضاري.
الثاني: الحضارة الإسلامية كمنتجٍ ثقافيٍّ؛ فالثقافة الإسلامية التراثية -التي هي منتجاتٌ بشريةٌ- فيها الخير وفيها الشرّ، وتحتاج إلى تنقيةٍ كبيرةٍ لنعرف ما قارَب منها القرآنَ وما باعد عنه؛ إذ القرآن هو الميزان.
فكيف لنا أن نوجِد إنسان الحضارة الذي يدخل في الشراكة الحضارية؟ وهل يمكن أن تستعيد الحضارة الإسلامية مكانتها اليوم؟
الجواب: إنَّ هذا بقدر فاعليَّتنا في تنقية الثقافة الواردة، وإنتاج ثقافةٍ مكافئةٍ للعصر، وأن نقدِّم مشروعاً يساهم في صناعة إنسان الحضارة بقِيمه، مشروعاً عمليَّاً وليس فكريَّاً فقط؛ ويومَ يرتقي الفرد المسلم ابتداءً، والنظام الموجود ثانياً، إلى مستوى القرآن الكريم ومشروعه الحضاري، فلن تقف حضارةٌ أمام الحضارة الإسلامية؛ لأنها حضارةٌ إنسانيةٌ كونيةٌ تسرُّ كلَّ إنسانٍ منصِفٍ.
تحرير د. إياد صبحي دخان
[1] أصل المقال لقاء مع الدكتور جاسم سلطان على منصة "المنصة"، تجدونه على الرابط:
[2] الواجهةُ العمرانية للبيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم رومانيةٌ، و"جورج بوش" في خطابه عن حرب الخليج كان يتكلم عن الفيالق الرومانية؛ لأن هذه الفكرة أساسيةٌ في التكوين العقلي عند الأوروبيّين.
[3]"البراغماتية - Pragmatism": تسمَّى بالفلسفة العملية أو الذرائعية؛ لأنها تجعل من المنفعة مقياساً للحق والباطل؛ بل مقياساً للخير والشرِّ؛ فالفكرة تكون صحيحةً أو باطلةً بمقدار ما تحقّقه للإنسان من نفعٍ في حياته العملية، ليس لأنها صحيحةٌ في ذاتها، أو لأنها مطابقةٌ للواقع، فليس هذا مهمَّاً، ولكنَّ المهمَّ أن تحقّق النفع للفرد أو الجماعة التي تعتنق المذهب البراغماتي.