تتردّد كثير من المصطلحات في خطابنا التحليلي، أو نقوم بترجمتها دون إدراك للمفاهيم الكامنة وراءها، ودون إدراك لمرجعيتها النهائية وبعدها المعرفي. نتحدث أحيانا عن "العقلانية"، "الليبرالية"، "العلمانية"، "الحداثة"، "وحدة العلوم"، "الاغتراب"، "الأنسنة" و"العولمة" وغيرها من مفاهيم عدة قام عليها الفكر الغربي الحديث، وأدلجها في مجتمعاتنا دون أن نعرف مرجعيتها. في حين أن المعنى الحقيقي لهذه المصطلحات لا يتضح إلا من خلال تحديد أبعادها المعرفية ومرجعيتها الكلية.
على سبيل المثال، إذا أخذنا الخلفية المعرفية في الاعتبار سنجد أن تعريف مصطلحات مستحدثة مثل "الأنسنة" أو "العولمة" ليس كما نفهمه من لفظها المنطوق كمصطلحات مشتقة من لفظ "إنسان" في إشارة إلى الجوهر الإنساني والأخلاقي الذي يميز الإنسان وإعطاء الأشياء نسقا تربويا، ولفظ "عالم" للتعبير عن التوسع والامتداد العالمي ما يجعل العالم يصبح أكثر تواصلا وتكاملا، بل من خلال ما تجره هذه المصطلحات من مفاهيم وفلسفات برزت مع استعمالها عند نشأتها في الغرب، حيث نَمت وأصبحت موضوعا يشغل الجميع، يشغل الغرب الذي يسعى إلى بسط سلطانه ونفوذه على العالم بقوته وحضارته المركزية، ويشغل غيره من الدول لحاجتها إلى التنمية وهي تفتقر إلى شروطها وتوجد على هامشها بعيدا عن المركز.
إنسانية الإنسان ومادية الأشياء
وفق قول فيليب هودار في كتاب "فلسفة الحداثة"، فقد ظهر مصطلح الأنسنة لأول مرة كثورة مضادة للكنيسة، بهدف تحرير الإنسان من أي سلطة خارجة عن ذاته، ولتحريره أيضا من التبعية اللاهوتية، ككائن له مطلق الحرية في رسم طريقه القيمي والفكري بعيدا عن أي سلطة لا تمثل إرادته البشرية، إلا أنها حينذاك لم تكن تيارا فكريا متكاملا ومنظما بالمعنى المعروف.
ثم ظهرت على إثرها النزعات الإنسانية الغربية المختلفة، وقد فصل الدكتور المسيري في دراسة تحليلية لأبرز رواد هذه النزعة من مفكرين من الشرق والغرب في كتابه "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان". وكانت أبرزها "النزعة المركزية" أو الدراما الفردانية التي أنكرت المطلق وألهت الإنسان، و"العدمية" التي نفت كل يقين ديني أو معرفي أو أخلاقي، بل وأيّ مركزية لأي كائن كان، إلها كان أم إنسانا، و"الداروينية" التي تقوم على فكرة أن البقاء للأصلح ماديا، وتذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة استعمالية يوظفها القوي لصالحه تتسم بالعماء الوجودي المفتقد للمعنى، وانبنت على هذه النزعات فلسفة كل من شوبنهاور القائمة على العدميّة الكمونية المادية والسيولة الشاملة حيث يكون التمركز الكلي حول الذات وتختفي القيم المعيارية وهي الأفكار التي تتسرب اليوم دون وعي إلى أذهان أغلب شبابنا عبر نجوم النصائح الروحانية والتنمية البشرية.