الإنسان ذلك الكائن القيمي

الإنسان ذلك الكائن القيمي

الإنسان ذلك الكائن القيمي

 

اطلعتُ على مقالة بعنوان "نشأة وتطور القيم عبر الحضارات التأريخية" الصادرة عن جامعة كربلاء عام 2015، والتي تناولت تطور الهوية القيمية عبر الحضارات الكبرى في العالم. بيّنت المقالة أن القيم كانت حاضرة باستمرار في مسيرة تلك الحضارات، وإن كانت تختلف في تركيزها على أنواع محددة منها دون غيرها، بحسب خصوصيات كل حضارة.

لا تكون القيم[1]معيارًا حاكمًا ما لم تستند إلى أصل يتجاوز حدود الواقع النسبي؛ إذ إن القيم الكبرى، كالحرية والكرامة، لا تُستمد من التجربة أو تُكتسب من الوجود، بل تُوهب وجوبًا، وتُودَع في النفس عند خلقها، فهي من سنن الفطرة لا من مكتسبات الخبرة. وقد كان آدم، الذي اصطفاه الله وعلّمه، في حاجة ماسة إلى منظومة قيمية راسخة تعينه على عمارة الأرض بعد أن استخلفه الله فيها. فكيف له أن يُدبّر شؤون الحياة، ويتفاعل مع ربه، ونفسه، والناس، والموجودات من حوله، دون مرجعية قيمية ثابتة؟ بل كيف له أن يكتشف القيم المتجددة ويُحسن تدبيرها، إن لم يكن مؤسسًا على قيم أصلية مزروعة في كيانه منذ النشأة؟

إن سمو الأخلاق يقتضي أن يكون مصدره الوحي، أو أن تتصل هذه الأخلاق بالفطرة، التي يمكن النظر إليها كمستودع للذاكرة الأولى للقيم الكبرى. ومن خلال استحضار هذه القيم المؤسسة - كالحرية، والرحمة، والكرامة، والإيمان، والتقوى، والسلام، والحياء، والإبداع - يتمكن الإنسان من ابتكار قيم جديدة تستجيب لحاجاته المتجددة والمتغيرة. فكل مسألة جديدة في الحياة تستدعي قيمة أو إجابة جديدة تنهض بها. وكلما كانت هذه القيم المستحدثة متصلة بالقيم الإنسانية العليا، عظُمت ثمارها من الصلاح والرشد، وأسهمت في تراكم منجزات البشرية في ميادين الاختراع والاكتشاف والإبداع، وحققت للإنسان قدرًا من السعادة والرضا.

يمكننا الحديث عن حضارات مشهورة ذات قيم بارزة مثل "حضارة وادي الرافدين" و"حضارة وادي النيل" و"الحضارة اليونانية" و"الحضارة الرومانية" و"الحضارة الصينية" و"الحضارة الهندية" و"الحضارة اليابانية و"الحضارة العربية" و"الحضارة الأوروبية في عصر نهضتها وبدايتها" ثم "الثورة التكنولوجية" فــ"الثورة الالكترونية".

يتّضح لنا - كما يبيّن الجدول أسفل المقال - أن القيم كانت حاضرة في حياة المجتمعات عبر آلاف السنين، وإنْ اختلفت تفاصيلها وتشابهت أحيانًا، فقد شكّلت كل حضارة منظومة من القيم تعكس هويتها وتطلعاتها، وتواجه بها مشكلاتها وتطرح حلولها. ومن هنا نفهم أن استمرار الحضارات وازدهارها ارتبط بوجود قيم تحميها وتنمّيها، وتُرمّم ما يتصدّع منها. وكلما ضعفت هذه القيم أو تقادمت وتآكلت، بدأت الحضارة في التراجع والجمود، ثم الخضوع والتبعية، حتى تتلاشى تمامًا. وتجدر الإشارة إلى أن انهيار الحضارات لا يحدث دفعةً واحدة، بل هو مسار طويل ومعقّد يمكننا وصفه بـ"تاريخ الانهيار"، حيث تتشابك مئات وربما آلاف العوامل التي تتراكم عبر قرون، لتؤدي في النهاية إلى سقوط الحضارة.

تبقى القيم حجر الأساس في بناء الحضارات وصناعة الإنجازات وازدهار المجتمعات، فالإنسان بطبيعته كائنٌ قيمي، وكلما ابتعد عن منظومة القيم، فقد شيئًا من جوهر إنسانيته. بل إنّ التدهور التام في الالتزام بالقيم قد يدفع الإنسان إلى منزلة أدنى من البهائم، حيث تُمحى الفوارق بين الخير والشر، والصواب والخطأ، ولا يبقى له مرجعٌ سوى أهوائه ورغباته. عندها تفقد القيم معناها الجمعي وتتحول إلى أدوات لخدمة الأنانية والنرجسية الفردية. وهنا يبدأ عالم الإنسان في الانهيار، ويظهر عالم الفوضى والتصارع المحموم، حيث يبرر الأقوياء والأغنياء والماكرون والتافهون كل انتهاك للقيم، باسم المصلحة والذكاء والقدرة، فيتهدد الوجود الإنساني من جذوره.

لهذا السبب، نجد في الفكر الغربي وفرةً من الدراسات الفلسفية التي تنتقد واقعًا معاصرًا ضاعت فيه بوصلة القيم الأخلاقية العليا. واقعٌ بات يكتفي بمنظومة واحدة من القيم: قيم الإنجاز والإنتاج، التنظيم والإدارة، الاستثمار وتكديس الثروات، الموضة والاستهلاك، الترفيه والسياحة. إنها قيم تزحف بهدوء لتحتل المشهد، بينما تتراجع في الظل قيم إنسانية أعمق كالإخاء، والعطاء، والرحمة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، واحترام البيئة. لقد أُهملت القيم التي تحفظ للإنسان جوهره الأخلاقي، وتُبقيه كائنًا حقيقيًا لا مجرد أداة في آلة العصر.

يمثّل مشروع الدكتور طه عبد الرحمن في مجال الأخلاق أحد أبرز المبادرات الفكرية التي تسعى إلى استعادة الإنسان لذاته، من خلال استعادة منظومته الأخلاقية وقيمه الأصيلة، تلك القيم التي تربطه بالإيمان والتقوى، وتؤصّل لمعاني التعارف، والإخاء، والحياة المشتركة، وتحمل المسؤولية، وأداء الواجبات. إنها القيم التي تبني جسور المحبة بين الأفراد والشعوب على اختلافهم، والتي ينبغي أن تكون الأساس الذي تُبنى عليه سائر القيم الأخرى؛ فنبني المواطنة على روح الإخاء، ونقيم التواصل على مبدأ التعارف، ونؤسس المسؤولية على الحياء بمعناه العام[2] ، ونجعل من الإيمان والتقوى بوصلتنا في فهم غاية الوجود.

جدول للحضارات يبرز القيم التي كانت تشتغل في داخلها غالبا:

 

 

 

حضارة وادي الرافدين

القيم الاقتصادية التي تنظم الإنتاج والاستهلاك، وقيم التخصص وتقسيم العمل التي تعزز الكفاءة، والقيم السياسية التي ترسخ مبادئ العدالة والمشاركة، إلى جانب القيم الدينية التي تهذب السلوك، والقيم القانونية والتشريعية التي تحفظ الحقوق وتنظم العلاقات، والقيم الجمالية والهندسية التي تضفي على الحياة انسجامًا وجمالًا ووظيفة."

 

 

حضارته وادي النيل

قيم العمل المنظم والإدارة في بناء اقتصاد زراعي متماسك، قيم الدولة ترسخت في مفاهيم الحق والعدل والنظام، القيم الدينية لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجماعي، بينما عبّرت الأهرامات عن ذروة القيم الجمالية، في فنون البناء والرسم والنحت.."

 

الحضارة اليونانية

قيمة التعلم، وقيمة التعليم، وتعليم القيم الخُلقية، وقيم الجمال، والقيم الدينية، والقيم الفلسفية.

 

الحضارة الرومانية

قيم الغنى والبذخ، وقيم الاقتصاد، وقيم القوة والسيطرة والنفوذ، وقيم إدارة الاختلاف للأمم المتعددة، وقيم دينية وجمالية.

 

الحضارة الصينية

قيم الاجتماع والأسرة، وقيم العمل والطاعة، والقيم الدينية القائمة على الإرشاد والتوجيه، وقيم الجماعة والمسؤولية.

 

الحضارة الهندية

القيم الدينية، وقيم الأسرة والعشيرة، والقيم الاقتصادية، وقيم العمارة والرسم، وقيم القوة والسلطة.

 

الحضارة اليابانية

قيم الأمانة والصدق واحترام القانون والتضحية، وقيم العمل والمهارة، والقيم السياسية، والقيم الدينية.

 

الحضارة العربية

قيم المروءة والوفاء والشجاعة، والقيم الجمالية، ومركزية قيمة العلم في الإسلام، والقيم العليا (الحق والتقوى والعلم والعمل والعدل والحرية)، فالإنسان الكامل هو إنسان الأخلاق أولًا.

 

 

الحضارة الأوروبية

تبلور فيها مفاهيم مادية للإنسان فشمل نفسه وقيمه وعالمه، وقيم الثورة الصناعية المادية، وقيم التنافس، وقيم التخصص في المنظمات، ونقل القيم إلى مقام الموضوع المدروس لتشغيلها في علوم الاقتصاد والسياسة والإدارة.

الثورة التكنولوجية

قيم فردانية، وقيم العمل والإنتاج، وقيم التطور والتقدم.

 

الثورة الإلكترونية

قيم الابتكار والإبداع والعولمة باعتبارها تحولا نحو قيم الفردية والحرية والديمقراطية والاستقلالية وتحقيق الذات، وقيم وقت الفراغ والسياحة.

 

[1]القيمة: عبارة عن "المعنى المثالي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهدَ في الإتيان بأفعاله على مقتضاه"، وبناءً على هذا التحديد الفلسفي الإجمالي لكلمة "القيمة"، يجوز أن نستعمل لفظين آخرين يَسُدّان مسدها، أحدهما اختص به الفلاسفة وهو لفظ "المثال" أو قل "المثال الأعلى"؛ ونذكر من المُثُل التي اشتغل بها المتقدمون منهم: "الخير" و "الحق" و "الجمال"، ونذكر من المُثُل التي اشتغل عليها المتأخرون منهم: "الحرية" و "المساواة" و "العدل"، أما اللفظ الثاني، فقد اختص به علماء الأصول، وهو لفظ "المصلحة" في مدلوله المعنوي الذي يقترن بمدلول "الصلاح"، إذ المصلحة هي كل ما يصلح به حال الإنسان، ونذكر من المصالح التي أجمعوا على دلالة النصوص الشرعية عليها المصالح الخمس الآتية وهي: "الدين"، "العقل"، "النفس" (والمراد بالنفس هنا الحياة)، "المال" و "العِرْض". معجم الإنسان الجديد، معتز  أبو قاسم ص311 ، والحق الإسلامي، ص16

[2] وهو تخلُّقٌ الأصلُ فيه أن يتعدى نفعه إلى الغير، أي أنه -أساسًا- علاقة بالغير.