يحلّ اليوم العالمي للغة العربية كل عام ليعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول موقع لغتنا في عالم سريع التحولات، وليراجع بعمق طبيعة حضورها في ميادين المعرفة والإنتاج والتكنولوجيا.
لم يعد الاحتفاء بالعربية ترفاً مؤسسياً أو شعاراً ثقافياً عابراً، بل أصبح مناسبة لمساءلة الذات: ماذا فعلنا بلغتنا؟ وما الذي فعلته بنا؟ وإلى أي مدى يمكن للعربية أن تتحول من رمز ثقافي إلى قوة ناعمة ومورد استراتيجي في مشروع حضاري يحتاج إلى إعادة بناء؟
إن هذا اليوم لا يهدف إلى تمجيد العربية بقدر ما يدعو إلى التفكير في راهنيتها ووظيفتها في المستقبل. فالعالم الذي نعيشه اليوم هو عالم تتسارع فيه الصناعات اللغوية، ويتوسع فيه نفوذ اللغات التي ترتبط بقوة المعرفة والبحث العلمي والاقتصاد الرقمي، وفي المقابل؛ تواجه العربية تحديات جسيمة تتراوح بين انحسار استعمالها المؤسسي، وتذبذب حضورها في المدرسة والجامعة، وضعف إنتاج المعرفة بها، رغم كونها إحدى أوسع لغات العالم انتشاراً، وواحدة من اللغات الرسمية في الأمم المتحدة.
من هذا المنظور، يصبح اليوم العالمي للعربية فرصة للانتقال من الاحتفال الرمزي إلى الفعل الحضاري، ومن التقديس العاطفي إلى التخطيط الاستراتيجي. وهنا ينهض السؤال الذي يشكّل محور هذا المقال: متى تكون العربية سبيلاً للنهضة؟ وكيف يمكن للغة أن تتحول إلى رافعة حضارية؟ وهل هذا ممكن حقاً؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين فكري، بل هي مدخل لتحديد شكل المستقبل الذي نريده لأنفسنا ولأجيالنا، فقد لخّص المفكر نعوم تشومسكي جوهر المسألة بقوله: "اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي أداة تكوين للفكر ذاته؛ ومن يسيطر على لغته يسيطر على قدرته على التفكير."
تمثّل اللغة العربية أحد أهم المكونات البنيوية للذات الحضارية للأمّة، فهي ليست مجرد أداة للتواصل، بل منظومة فكر ومعرفة وقيم وذاكرة وتاريخ ومع ذلك، فإنَّ سؤالاً مركزياً يعود بإلحاح في سياق النقاش حول مشروع النهضة العربية: متى تكون العربية سبيلاً للنهضة؟ وكيف يمكن أن تتحول من وعاء للتراث إلى رافعة لمستقبل أكثر تقدماً؟ وهل هذا ممكن واقعياً؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أولاً فهم موقع اللغة في أي مشروع حضاري، فالتجارب الكبرى - من النهضة الأوروبية إلى النهضة اليابانية والكورية - تُظهر بوضوح أنّ اللغة ليست مجرد تابع للحضارة، بل هي من أهم محرّكاتها ولذا؛ فإن الحديث عن نهضة عربية في ظل وضع لغوي مرتبك يظل حديثاً معلّقاً، يفتقر إلى شروط الإمكان.
أولاً: متى تصبح العربية أداة للنهضة؟
تتحول العربية إلى أداة فعالة للنهضة عندما تستعيد ثلاث وظائف تأسيسية: وقد أشار الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى أن "اللغة ليست وعاءً للفكر، بل هي مولِّدة له"، وهو ما يعني أن العربية لن تنهض ما لم تصبح لغةً لإنتاج المعرفة، لا مجرد وسيط لتلقيها.
- وظيفة المعرفة: فالعربية لا تنهض ما لم تتحول إلى لغة لإنتاج المعرفة وليس فقط استهلاكها. ويعني ذلك إعادة الروح للبحث العلمي بالعربية، ودعم حركة الترجمة، واستعادة تقاليد البحث الرصين التي صنعت مجد الحضارة الإسلامية في القرون الأولى، وهو ما أشار إليه مالك بن نبي بقوله: "المشكلة ليست في اللغة، بل في الإنسان الذي يتعامل معها؛ فاللغة تتطور حين تصبح جزءاً من فاعلية حضارية."
- وظيفة الإبداع: إذ لا يمكن للغة أن تكون حيّة دون تيار قوي من الأدب والفنون والكتابة الرفيعة. الإبداع هو الذي يمنح اللغة مرونتها وطاقتها على النمو، وهو الذي يجعلها قادرة على التعبير عن الإنسان في تحوّلاته الكبرى، وهذا ما يشرحه آينشتاين بطريقة رمزية: "لا يمكن للخيال أن ينمو خارج اللغة."؛ فالخيال العلمي والتقني يبدأ من قدرة اللغة على تشكيل خيال المجتمع.
- وظيفة التداول المؤسسي: فلا نهضة لغوية من دون حضور العربية في الإدارة، والاقتصاد، والتكنولوجيات الجديدة، والتعليم الجامعي، والإعلام. وقد لخّص شارل ديغول هذه الحقيقة بقوله: "اللغة هي الوطن"، أمّا لي كوان يو، مهندس نهضة سنغافورة، فيربط النهضة مباشرة بالسياسات اللغوية: "إن نهضة الأمم تقوم على لغتها الأم أولاً، ثم على اللغات التي تفتح لها أبواب العالم"؛ عندما تصبح العربية لغة عمل حقيقية داخل المؤسسات، تكتسب قيمتها الاستراتيجية تلقائياً.
ثانياً: كيف تصبح العربية محركاً لمسار حضاري صاعد؟:
يتطلب ذلك مجموعة من الشروط المتكاملة:
- إصلاح المدرسة والجامعة: فالعربية لا يمكن أن تنتعش في ظل تعليم هشّ يفتقر إلى الجودة، وبوصف فيكتور هوغو، حين يقول: "من يملك لغة يملك مفتاح قلب أمة"، فإنّ المطلوب هو تعليم لغوي عميق، يدمج البلاغة والكتابة والتفكير النقدي، ويخرّج جيلاً يمتلك العربية امتلاكاً وظيفياً لا شكلياً.
- تثوير قطاع الترجمة: فالنهضة لا تنطلق إلا عبر استيعاب المعرفة العالمية بلغتنا، ثم إعادة إنتاجها من منظورنا، لقد أثبت التاريخ أن أعظم التحولات الحضارية كانت في جوهرها ثورة ترجمة، وقد قال ابن رشد في هذا السياق: "نحن أمة لا نستحي من الأخذ عن غيرنا ما دامت غايتنا الحق."
أما غوته فيذكر بعداً آخر: "من لا يعرف لغات غير لغته لا يعرف شيئاً عن نفسه."
- التحول الرقمي: ينبغي للعربية أن تخوض معركتها الحقيقية في الفضاء الرقمي، من خلال المحتوى العلمي والبحثي، والذكاء الاصطناعي، والتطبيقات التقنية.
العالم يتجه بسرعة نحو اقتصاد يقوم على البيانات واللغة، وأي لغة لا تدخل هذا المجال محكوم عليها بالتهميش، وقد عبّر بيل غيتس عن هذه الحقيقة بوضوح: "اللغة التي تحضر في التكنولوجيا هي التي ستحدد مستقبل التعليم والعمل."
- إرادة سياسية وثقافية: فاللغة مشروع دولة ومجتمع معاً. من دون تشريعات قوية، وتخطيط لغوي، وسياسات واضحة لتعريب الإدارة والتعليم، تبقى الجهود محدودة، وهذا ما يؤكده محمد أركون حين يقول: "العربية تملك قدرة هائلة على التوليد، لكن مشكلتها تاريخية وسياقية، لا بنيوية."
ثالثاً: هل هذا ممكن؟
الإجابة: نعم، وبقوة؛ ليست العربية عاجزة، بل واقعياً هي واحدة من أكثر اللغات انتشاراً، ومن أسرعها نمواً على الإنترنت، وتمتلك طاقة اشتقاقية هائلة لا تتوافر لكثير من اللغات، العجز ليس في اللغة، بل في السياسات والممارسات، وقد لخّص إدوارد سعيد هذا الفرق بقوله: "الهوية ليست ما نرثه فقط، بل ما نصنعه بما نرثه."
فالعربية إرث حضاري عظيم، لكن تحويله إلى قوة مستقبلية مسؤولية بشرية وليست لغوية.
فالعربية إرث حضاري عظيم، لكن تحويله إلى قوة مستقبلية مسؤولية بشرية وليست لغوية.
وهنا يصبح اليوم العالمي للعربية ليس مناسبة احتفالية، بل إعلاناً عن بداية مرحلة جديدة: مرحلة الانتقال من الدفاع عن العربية إلى الاستثمار فيها، ومن التعامل معها باعتبارها رمزاً إلى اعتبارها مورداً استراتيجياً في مشروع النهضة.
لكن إمكان النهضة مرهون بشرط وحيد: تحويل العربية من قضية وجدانية إلى قضية استراتيجية؛ حين نحرر النقاش اللغوي من العاطفة ونربطه بمسائل السيادة المعرفية والتنمية العلمية، ندرك أن مستقبل الأمة مرتبط مباشرة بمستقبل لغتها.
خاتمة:
إنّ سؤال: متى تكون العربية سبيلاً للنهضة؟ ليس سؤالاً نظرياً، بل سؤال مصيري. ستكون العربية أداة للنهضة عندما تصبح لغة إنتاج معرفي، وإبداع ثقافي، وتداول مؤسسي، وحضور رقمي، وتخطيط استراتيجي، وحين يتحقق ذلك، تصبح العربية جزءاً من الحل، لا جزءاً من المشكلة، وتتحول إلى جسر يعبر بالأمة نحو زمن حضاري جديد، فاللغة كما قال دريدا: "تحمل ميتافيزيقا العالم الذي ينتجها".
وإذا أردنا عالماً عربياً جديداً، فلا بد من لغة عربية جديدة: قوية، فاعلة، منتجة، وحاضرة في كل ميادين الحياة.