كيف نرفع إيمانهم وفق ذكاءاتهم

تُعد هذه المحاضرة رحلة تربوية ونفسية عميقة في استكشاف "أنماط التدين" وكيفية الارتقاء بالإيمان وفقاً للبناء الشخصي لكل فرد، مستندةً إلى إرث الوحي، وتطبيقات السلف الصالح، وعلوم الطباع البشرية.

فلسفة الاختلاف والقواعد الخمس للتدين
انطلقت المحاضرة من مبدأ جوهري مفاده أن البشر "معادن"، وهو ما يفرض تنوعاً حتمياً في طرق التربية والخطاب الدعوي. وقد أرست المحاضرة خمس قواعد أساسية لفهم هذا الاختلاف:
1. الناس معادن: وهي القاعدة النبوية التي تؤكد أن الطباع جبلية وفطرية، مما يستوجب استخدام "منظورات" متعددة، وعدم قياس الناس وفق شخصية المربي فحسب.
2. كلٌ يعمل على شاكلته: أي أن النفس تميل بطبعها لما يشاكلها من العبادات؛ فمنهم من يجد لذته في الصيام، ومنهم من يجدها في الصدقة وإغاثة الملهوف.
3. كلٌ ميسر لما خُلق له: لكل إنسان استعداد فطري لفضيلة معينة يكون الوصول إليها أحرى وأقرب، مما يكسر حدة نماذج التعليم الموحد.
4. الأخلاق أرزاق ومواهب: الأخلاق مقسومة بين البشر كما الأرزاق، والتربية النبوية لم تهدف لصناعة نسخة مكررة، بل جعلت من كل صحابي "أفضل نسخة من ذاته".
5. تعدد أبواب الخير: كما جاء في رسالة الإمام مالك؛ فإن الله فتح لكل إنسان باباً من أعمال البر (صلاة، علم، جهاد)، وكلها على خير وفضل.

بوصلة الطباع الأربعة (الذكاءات الفطرية)
اعتمدت المحاضرة تقسيماً رباعياً للطباع البشرية، واصفة إياها بأنها "نظام تشغيل" فطري لا يتغير، وإنما يُهذب ويُطور:
- الطبع اللوجستي (الباحث عن النظام): يميل للاستقرار، والترتيب، والالتزام بالقوانين، وينفر من الفوضى.
- الطبع التكتيكي (الباحث عن الحركة): يميل للفاعلية، والارتجال، والشجاعة العملية، ويكره القيود والروتين.
- الطبع الاستراتيجي (الباحث عن المعرفة): يميل للتحليل، والتفكير الناقد، والرؤية الكلية، والربط بين الأفكار.
- الطبع الدبلوماسي (الباحث عن المعنى): يميل للعاطفة، والإلهام، والروحانية، وبناء العلاقات والانسجام.

جناح المواهب: الفاعلية وتوجيه الطاقات
أوضحت المحاضرة أن إدراك موهبة المتربي يحوله إلى إنسان "فاعل"؛ فالمواهب صفات حيادية تُستخدم في الخير والشر، والواجب التربوي هو ضبط "بوصلة" هذه المواهب:
- في العمل للدين: تجلت هذه الطباع في الصحابة؛ فظهر "اللوجستي" في انضباط أبي بكر وعمر، و"التكتيكي" في إقدام خالد والزبير، و"الاستراتيجي" في دهاء عمرو بن العاص وعلي، و"الدبلوماسي" في روحانية عثمان وتأثير خديجة -رضي الله عنهم جميعاً-.
- في أنماط العداوة: حتى أعداء الأنبياء اختلفت أساليبهم؛ ففرعون وأبو جهل (لوجستيون) طغوا بالسلطة والنظام، وقارون (استراتيجي) طغى بالعلم والمكر، والسامري (دبلوماسي منحرف) استخدم الإلهام للدجل والفتنة.

جناح الحاجات: الاتزان ومداخل الشيطان
تعد الحاجات النفسية محركات عميقة للاستقرار؛ فإذا رُويت أصبح المتربي "متزناً"، وإذا جُففت أشبعها بطرائق ملتوية، وهنا يكمن مدخل الشيطان والغلو:
- فمثلاً: الطبع "التكتيكي" الذي يُحرم من فرصة الظهور والفاعلية في بيئة شديدة الانغلاق، قد يلجأ لـ "التنمر" كحدثًا يهدف من خلاله لإثبات ذاته والتمرد على القوانين.
- أما الطبع "اللوجستي" فإنه يفقد اتزانه عند الفوضى أو غياب المسؤولية، مما يستوجب توفير بيئة منظمة لرفع إيمانه واستقراره.

الخاتمة:
إن جوهر العملية التربوية يكمن في فهم "دليل" الشخصية لكل متربٍ؛ لاستثمار مواهبه وتلبية حاجاته النفسية، مما يجعل رحلة الإيمان رحلة ميسرة ومتناغمة مع الفطرة التي جُبل عليها.