مفاهيم على طريق الإصلاح

التصنيف

المقالات

التاريخ

06/06/2023

عدد المشاهدات

219

الملف

تصفح ملف PDF

أ.د عبد الكريم بكار 

قضية الإصلاح أكبر قضية في حياة البشرية، وهي المهمة الكبرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخلفائهم من العلماء وذوي الاهتمام بالشأن العام؛ ذلك أن طبيعة الإنسان وطبيعة الاجتماع البشري، وما يتولد عنهما من عقابيل بالإضافة إلى حاجة الإنسان إلى الإطار التوجيهي. كل ذلك وأسباب أخرى يوجب على البشرية أن تظل في حالة من التوتر الدائم لعلاج أخطائها، وتقويم مسيرتها، ومقاربة منهج الفطرة والاستجابة لأمر الله والاهتداء بهديه.

قضية الإصلاح هذه إلى جانب أنها أهم قضية في حياة الناس هي أعقد قضية أيضاً، ويتجلى الابتلاء فيها في أتم صوره ومعانيه بسبب أن الإنسان عاجز عن القبض على الحقيقة دفعة واحدة، كما أنه عاجز عن الإلمام بالشأن الإنساني كله من جميع جوانبه وأبعاده، فهو حين يظن أنه أصلح جانباً من جوانب الحياة لا يدري بالتحديد مدى الفساد والضرر الذي يمكن أن يلحقه بالجوانب الأخرى، وقد لا يظهر له ذلك إلا بعد مدة طويلة. 

أضف إلى ذلك تفاوت الخلفية العقائدية والثقافية والمزاجية لدى المصلحين، واختلاف زاوية الرؤية، كل ذلك يجعل الجهود الإصلاحية مشتتة، وأحياناً متصادمة يجهض بعضها بعضاً.

إن المصلح لا يوجد إلا عندما يتحلى بصفتين:

الأولى: تشبعه بالرجاء والأمل في إمكانية حدوث الإصلاح والقضاء على الفساد والانحراف، أما اليائسون فإنهم يرون عملية الإصلاح أشبه بالقيام بطلاء سفينة آخذة في طريقها نحو القاع!! .

الثانية: هي امتلاك حساسية عالية نحو بعض ضرورات التغيير؛ فحين ينذر المصلح ويحذر من أخطار الواقع المعيش يكون غيره غارقاً في الملذات، أو مشغولاً بالتوافه، أو لا يكون هنا ولا هناك !! .

وسنعرض في هذا المقال لبعض المفاهيم التي تبلورت لدينا في مسائل الإصلاح بهدف إثراء الساحة الدعوية بالأفكار الإيجابية، وعلى الله قصد السبيل:

1. السلام والنظام شرطان أساسيان لوضع الأمة في الوضع المنتج: 

تعاليم الشريعة السمحة توفر الإطار العام للسلام الفردي والاجتماعي، كما توفر الكثير من المبادئ والمفردات التي تشكّل النظم الحياتية كافة، وأولى درجات السلام سلام المسلم مع نفسه، وقبل ذلك مع ربه ثم مع مجتمعه الذي يعيش فيه؛ ولا يتحقق هذا السلام إلا من خلال الاستقامة أولاً ثم تنمية الشعور الإيجابي بين أفراد المجتمع كل تجاه الآخر، وتقوم الدولة بدور فاعل في تحقيق التناسق والتناغم الاجتماعي إلى جانب تنظيم حقول التبادل والتعاون، وحين يوجد السلام يمكن للنظام أن يقوم أما في حالات الحرب الأهلية، أو حالات الانهيار الاجتماعي فإن النظام وسيادة القانون ومبادئ الحقوق والواجبات تصبح جميعاً في مهب الريح . 

إن القانون مهما كان غير عادل يظل خيراً من حالة لا يحكم فيها أي قانون؛ حيث يأكل القوي الضعيف، وتسود المخاوف على النفس والعرض والمال، ولنا في العالم الغربي عبرة؛ فالنظم التي تحكمهم بعيدةٌ عن هدي الإسلام، لكن الضعيف - في أكثر الأحيان - يستطيع الوصول إلى حقه، والمظلوم يجد مرجعاً لرفع ظلامته، والمصالح العامة للناس مصونة إلى حد بعيد. 

ولك أن تقارن هذا مع بعض الدول التي عمّتها الفوضى مع أنها مسلمة لكن انعدام النظام جعل كل القيم تتوارى، وجعل كل الوحوش تسرح وتمرح !! . لا تستطيع أمة أن تتقدم قيد أنملة بل ولا تستطيع أن تحافظ على إنجازاتها الموجودة ما لم يعمّ السلام الداخلي والأمن، وهما اللذان يوفّران لسلطة العرف والقانون المناخ اللازم لرسوخهما وحمايتهما للمجتمع من النكوص على عقبيه. 

2. التستر على الأخطاء يشجّع على تكريرها: 

ننظر دائماً إلى مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم – على أنه مجتمع مثالي، وهذه نظرة في محلها، لكن المصادر الموثوقة تدلنا على أنه وقع في ذلك المجتمع بعض المآثم والمخالفات، وهذا أيضاً لا ريب فيه؛ فالصحابة لا يدّعون العصمة ولا تُدعى لهم، وإذا كان هذا صحيحاً فإن وجود أخطاء ومخالفات لدى الجماعات والمجتمعات والهيئات أمر طبيعي وملموس، والله - تعالى - يفرح بأوبة عبده إليه، مع أن التوبة دليل خطأ سابق من صاحبها؛ لأن التوبة لا تكون إلا بعد صحوة، ومن وراء سمو، أما الذنب فإنه خضوع للغرائز ؛ وفي الحديث : (الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة) 

بعض الجماعات ارتكبت أخطاء فادحة في حق نفسها ودعوتها وأمتها، لكنها لا تملك أية شجاعة أدبية لوضع النقاط على الحروف، وبيان أوجه القصور التي أدت إلى تلك الأخطاء فضلاً عن أن تحاسب الذين تسببوا في ذلك!. 

وفي كثير من الأحيان تكون الحجّة أننا لا نريد كشف أوراقنا أمام أعداء الخارج ولا تقديم مادة دسمة مكشوفة لمنافسي الداخل، وهذا مخالف للمنهج القرآني ؛ فقد عتب القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً مما فعل، أو حدث نفسه به - كما في قصة زينب - وقال للصفوة الخيّرة من  هذه  الأمة : (منكُم مِّن يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةٌ) [آل عمران: 152] ولست أدري كيف يمكن لنا أن نبحث في العلاج أو نتناول الدواء، ونحن ما زلنا ننكر أننا نعاني من أية متاعب!!. 

إن التستر على الأخطاء لا يلغيها، لكنه يساعد على نموها وتكريرها؛ وتتمثل النتائج بعد ذلك في نوع من الانفجار الذي يذهب بالصالح والطالح، وفي حالات تشبه الكشف المتأخر لما يدمره السرطان من بنية شخص من الناس!. 

صحيح  أننا قد نستر فضائح مجتمعنا عن أعين مجتمعات أخرى لبعض الوقت، لكن العاقبة سوف تكون سقوطنا في أعين أنفسنا، وانهيارنا من الداخل والانهيار من الداخل دائماً هو أنكى أنواع الانهيار.

3. تفقد الأفكار زخمها حين يشك أنها لأغراض سياسية : 

إذا ألقينا بنظرنا على الساحات العالمية في الغرب والشرق والشمال والجنوب وجدنا المناداة بالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد - قائمة على قدم وساق؛ والإصلاح - لا شك - مطلب شعبي عام وكثير من الناس يجري خلف ما يقال إلى آخر الطريق؛ لكن إحساس الناس بأن ما يقال، وما يُطالب به من إصلاحات - يندرج ضمن المناورات والمزايدات السياسية - كاف لفقد ذلك الكثير من البريق والجاذبية، وفي تاريخنا الإسلامي اشتغلت فرق إسلامية بالسياسة، فكان ذلك على حساب فتوحاتها الروحية . 

من المهم جداً ألا نجعل المصالح العامة مطية للحصول على مكاسب سياسية أو منافع شخصية، فذاك قادح في الإخلاص وفي المصداقية، وهو بالتالي لا يؤدي إلى الإصلاح، لكنه يؤدي إلى نوع من انحباس السبل، والزهادة في كلمة الخير، هذا لا يعني بالطبع عدم مشروعية السعي إلى الوصول إلى مواضع اتخاذ القرار، لكنه يعني ضرورة عدم خلط الأوراق وإلباس الأشياء غير لبوسها الحقيقي.

4. العمل الشعبي الخيري لا يغني عن النظم الصالحة، لكنه يكملها : 

حين يحكم الناس بغير ما أنزل الله ، ويجري إبعاد أحكام الشريعة عن واقع الحياة فإن أعمال الخير لا تتوقف، وتتجه القوى الخيرة في المجتمع إلى استثمار خبراتها وطاقتها في الأعمال الخيرية الشعبية، من نحو بناء المساجد وكفالة الأيتام وإطعام الفقراء وبناء المدارس الشرعية . . . وهذه - ولا شك - أعمال مطلوبة في كل مكان وفي كل ظرف، لكن علينا أن نتذكر أن هذه الأعمال لا يمكن أن تكون أساسية في حياة الأمة، ولا يمكن أن تسد الفراغ الذي يتركه تعطيل أحكام الشريعة الغراء، بل هي أعمال تكميلية إضافية ومؤازرة للجهد الأكبر الذي تبذله الدولة المسلمة في الميادين الاجتماعية المختلفة، وهذا واضح جداً في أوربا وأمريكا إذ إن الجاليات الإسلامية هناك لا تستطيع إلا توفير جزء يسير من حاجاتها من المدارس والمساجد، فالدول هناك لا تقوم بأي جهد لتلبية تلك الحاجات . 

ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول: إن ثقافة أعمال الخير تتهمش وتضمر لدى كثير من الناس ما لم توجد النظم والقوانين التي تدعمها وتجسدها، وتحميها من غول (المادة) الذي يبتلع اليوم كل شيء.

5. بطالة شبابنا أخطر من المؤامرة علينا: 

أن يتآمر علينا الشرق والغرب فذاك هو الطبيعي، ما دمنا في عالم تنازع البقاء، وما دامت الحيتان تتغذى بالأسماك والأسماك بالديدان، والحل ليس بإقناع الغرب بمعاملتنا برفق وعطف؛ فذاك غير ممكن، لكن الحل يكمن في أن تكبر السمكة الصغيرة؛ لتصبح أكبر من فم الحوت وأسرع حركة منه، وأن 

تغدو أمة الإسلام رقماً صعباً في الموازين الدولية، تجاهله مشكلة ومواجهته مشكلة أكبر! وهذا لن يأتي من خلال الجأر بالشكوى، وإنما من خلال العمل الدؤوب، ومن خلال الأعمال الصغيرة التي يقوم بها كل واحد منا. 

إن ما يروع الغيور أن كثيراً من شبابنا يقضون أوقاتاً طويلة في الحديث عن حقد الغرب ونذالته ومؤامراته على أمة الإسلام، وهم في الوقت نفسه عاطلون عن أي عمل نافع، لدينا مرضى يحتاجون إلى رعاية، وجهلة يحتاجون إلى تعليم، وشباب يحتاجون إلى تدريب وشوارع تحتاج إلى رصف وأشجار تحتاج إلى سقاية، وأراضي بور تحتاج إلى زراعة وفرص اقتصادية ضخمة تحتاج إلى من يستفيد منها وطلاب ضعاف في دروسهم يحتاجون إلى من يقويهم، ولدينا ولدينا.. 

شباب عاجز عن كسب لقمة عيشه، وعن إتقان مهنته، وعن القيام بأية مخاطرة، ثم يحدثونك عن فتح روما وإنشاء حضارة إسلامية على أنقاض حضارة الغرب ! !. 

إن وعد الله - تعالى - بالتمكين لا يتخلف، لكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله!

6. النقد البناء أهم وسائل الإصلاح 

يمكن القول إن النقد أسهل أنواع الإنجاز الفكري، وهو في جوهره ناتج عن مطابقة يسيرة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، ونحن حين نحبذ النقد فإنما نحبذ النقد البناء الموضوعي الذي لا يعتمد على الشائعات ولا يستهدف الإساءة للأشخاص ولا التشهير بهم ولا نشر الفضائح، وإنما النقد الذي يساعد الأمة على البقاء في المسار الصحيح مشدودة نحو أهدافها الكبرى. 

إن النقد يبلور معرفتنا بذواتنا وأصولنا وإن كثيراً من الأفكار تظل غائمة ومعتمة ما لم تتعرض للنقد والحوار وتلكها ألسنة المناظرة، ثم إن النقد يوفر لنا بيانات كثيرة، نحن بأمس الحاجة إليها، إذ إن الإنسان يحب الوضوح ويحب العمل في أجوائه والنقد من المصادر المهمة لذلك، والنقد يؤسس نوعاً من السلطة الأدبية التي يحتاج الإنسان إلى من يمارسها عليه ليعوض بذلك ما لديه من ضعف في الحوافز على العمل، أو ليحجزه عن الكسل وسوء استغلال الوظيفة. 

وبالإضافة إلى هذا وذاك فإن النقد دليل على يقظة الوعي وانتباه المجتمع لواجباته ومسؤولياته كما أن وجوده يقاوم القصور الاجتماعي الذي يصيب الأمم في أيام التدهور والانحطاط. 

نحن نضيق بالنقد؛ لأنه يتطلب منا أن نرفع وتيرة جهدنا، أو تغيير عادات، ألفناها وأحياناً لأنه يقطع علينا طرق المنافع غير المشروعة ... لكننا نقول بأمانة إن هامش المناورة أمامنا محدود فإما أن نقبل بالنقد - المشروع - وإما أن نصير إلى التأسّن والركود أو الانهيار من الداخل، وليس القبول بالنقد أسوأها قطعاً على كل حال.

خاتمة: 

إن قضية الدعوة إلى الله تعالى ليست شأناً خاصاً لفئة محدودة من الناس ولكنها من القضايا المركزية لهذه الأمة، فنحن أمة رسالتها الأساسية في هذه الحياة هداية الخلق ونشر أعلام الحق والعدل والخير وتعبيد الناس لقيوم السموات والأرض، كما أن إصلاح المجتمعات الإسلامية وتخليصها من حالة الوهن والغثائية من الهموم العامة لمعظم أبناء الأمة على اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم.  

وقد نشرت بحوث ودراسات كثيرة في قضايا الدعوة إلى الله وهي على كثرتها وتنوّعها لم تعط هذا الموضوع حقه من الدرس والبحث، وليس ذلك بسبب قصور تلك الدراسات وإنما بسبب ضخامة الموضوع، وكونه الحقل العملي الذي يمكن أن يفيد من التقدم العلمي في العلوم كافة، ومن ثم فإننا نعتقد أن ميادين القول فيه ستظل رحبة وفسيحة ما دام هناك ارتقاء معرفي على هذه الأرض. 

عوائق النهضة عوائق الداخل وعوائق الخارج الوالدية الرقمية