النهضة عملية شاملة تتطلَّب توازناً بين الفكر والمادة، بين الماضي والحاضر. في هذا السياق، يُثار التساؤل حول دور الدين في تحقيق التقدُّم. هل الدين جزءٌ من الحل، أم أنَّ التقدُّم يتطلَّب فصل الدين عن الدولة؟
الدين والنهضة: إشكاليَّة التوازن بين الماضي والمستقبل
النهضة هي العملية التي تُدخِل المجتمعات في دوراتٍ حضاريةٍ جديدةٍ، عبر تدفُّق الأفكار الحيَّة إلى بيئاتٍ راكدةٍ؛ هذه الأفكار تؤدّي إلى تغييراتٍ جذريةٍ في مجالاتٍ متعدّدةٍ؛ كالتقدُّم السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي.
لكنَّ السؤال الأساسي الذي نطرحه هنا:
ما دور الدين في هذه المعادلة؟
هل يمكن للدين أن يكون ركيزة نهضةٍ حديثةٍ؟
النهضة ليست مجرّد حالةٍ ماديةٍ، أو تغيُّرٍ اجتماعي سطحي؛ بل هي تطوُّر شامل يمتدُّ إلى محاور رئيسية ثلاثة:
1. المحور الفكري: التحوُّل من التفكير التقليدي القائم على استنباط المعارف من الموروثات، إلى منهجية الاستقراء التي تركّز على ملاحظة العالم واستخلاص القوانين منه.
2. المحور النفسي: التغيير في نفسيَّة المجتمع من الانسحاب إلى الفعل الإيجابي؛ حيث يتحوَّل الفرد إلى قوةٍ دافعةٍ داخل المجتمع بدلاً من كونه مجرد متلقٍّ سلبيٍّ.
3. المحور المادي: مظاهر النهضة تتجلَّى في التقدُّم المادي؛ سواءٌ على مستوى البنية التحتية، أو التطوُّر العلمي والتكنولوجي الذي يعكس تقدُّم الأمة ككلٍّ.
إذاً؛ فالنهضة تعتمد على توليفةٍ معقَّدةٍ؛ من: الفكر، والنفس، والمادة، وهي تتحقَّق حين ينجح المجتمع في الجمع بين هذه المكوّنات بشكلٍ متكاملٍ.
أين الدين في معادلة النهضة؟
يجب تحديد أين ينتهي دور الدين ويبدأ دور الإنسان في صناعة النهضة؛ فالدين يلعب عدَّة أدوارٍ أساسيةٍ:
1. منظور الوجود: يقدِّم الدين تصوُّراً متكاملاً عن الوجود ومكانة الإنسان فيه؛ ممَّا يساعد الفرد على فهم موقعه ودوره في هذا العالم.
2. منظومة القيم: الدين يقدّم إطاراً من القيم الأخلاقية التي تحكم تصرُّفات الإنسان؛ خاصَّةً في غياب القانون الوضعي.
3. التأثير الاجتماعي: الدين يشكّل هويةً مشتركةً للمجتمعات، ويتجلَّى ذلك في العادات، والتقاليد، والأعياد المشتركة التي تعزّز الانتماء الاجتماعي.
4. التضامن الاجتماعي: من خلال منظومة الزكاة ونظام التكافل، يلعب الدين دوراً في توفير الدعم للفئات المحتاجة.
5. صمَّام أمانٍ نفسي: الدين يُمكِّن الأفراد من امتصاص صدمات الحياة، ومواجهة المصاعب بروحٍ معنويةٍ قويةٍ.
إلا أنَّ هناك أموراً أخرى يتوجَّب على الإنسان القيام بها بعيداً عن الدين. فلا يُنتظر من الدين أن يقدّم لنا حلولاً تفصيليةً حول كيفية تحقيق النهضة الاقتصادية، أو معالجة القضايا التقنية؛ فهذه مسؤولية الإنسان الذي يملك العقل والقدرة على اكتشاف السنن الكونية والعمل بها.
أوروبا والدين: هل تخلَّى الغرب عن الدين للنهضة؟
عندما نتحدَّث عن النهضة الأوروبية، يتبادر إلى الذهن اعتقاد خاطئ؛ مفاده: أنَّ أوروبا قد تخلَّت عن الدين لتحقيق نهضتها. لكنَّ الواقع مختلف تماماً؛ فما حدث في أوروبا هو تخلٍّ عن نوعٍ محدَّدٍ من الدين -الدين الذي كان يقمع الفكر والحرية- لصالح نوعٍ آخر من التديُّن الذي يشجّع على العمل والنجاح؛ فالثورة البروتستانتية -الاحتجاجية- كانت علامةً فارقةً في هذا السياق؛ إذ كانت تؤمن أنَّ النجاح في الحياة هو دليل رضا الله عن الإنسان. وبهذا، شجَّعت على الاجتهاد والعمل.
العلمانيَّة: نتيجة تاريخية، وليست عقيدةً عالميةً
العلمانية لم تأتِ من فراغٍ؛ بل كانت إجابةً على سؤالٍ ملِحٍّ واجَهَ الأوروبيين في لحظةٍ تاريخيةٍ معيَّنةٍ، ولكنَّ العلمانية ليست قالباً واحداً؛ فهي تختلف باختلاف السياقات التاريخية والجغرافية؛ ففي فرنسا، كانت العلمانية عنيفةً ومتطرّفةً نتيجة التحالف القمعي بين الكنيسة والملكية. بينما في أمريكا، وُلدت العلمانية لحماية حرية التديُّن.
وبالتالي؛ ليس بالضرورة أن تكون العلمانية هي الحل في كل المجتمعات؛ ففي المجتمعات المسلمة على سبيل المثال، قد تكون هناك حاجةٌ لنماذج أخرى تتيح تحقيق التوازن بين الدين والدولة.
الدولة المعاصرة: سياج حمايةٍ للمجتمع
الدولة الحديثة ليست مجرد جهازٍ إداري؛ بل هي سياجٌ يضمن وجود المجتمع ويحميه من التفتُّت. لتحقيق ذلك؛ تحتاج الدولة إلى توافقاتٍ داخليةٍ بين النخب القادرة على التعامل مع التحديات المركَّبة التي تواجهها.
في هذا السياق، تُظهِر العلمانية قدرتَها على توفير بيئةٍ متسامحةٍ؛ حيث يتمكَّن الأفراد من ممارسة شعائرهم وهويَّاتهم بحريةٍ، دون الإخلال بمصالح المجتمع ككلٍّ؛ لقد نجح المسلمون الأوائل في العيش في بيئاتٍ غير إسلاميةٍ مثل الحبشة بفضل القيم المشتركة من العدالة والحرية الدينية.
الإشكاليَّات الفكرية في المذاهب الإسلامية: عائقٌ أمام النهضة؟
تواجه بعض المذاهب الإسلامية تحدياتٍ عندما يتعلَّق الأمر بالتقدُّم. على سبيل المثال، في المذهب الأشعري، هناك نزعةٌ إلى التقليل من دور الأسباب الطبيعية في الحياة؛ ممَّا قد يؤدّي إلى ضعفٍ في التعامل مع الواقع المادي والقوانين المضطّردة.
كذلك، هناك تياراتٌ صوفيةٌ تدعو إلى الانسحاب من الحياة بدلاً من الانخراط الفاعل فيها. وإذا اعتمدنا على نصوصٍ فقهيةٍ جزئيةٍ دون النظر إلى مقاصد الشريعة، قد نصل إلى اختناقاتٍ تعرقِل التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي.
تحديث الفقه: أهمية دراسة الواقع
لتجاوز هذه الإشكاليَّات؛ يجب أن يكون الفقه المقاصدي مفتوحاً على دراسة الواقع؛ فالفقه لا يجب أن يقتصر على النصوص التقليدية فقط؛ بل يجب أن يأخذ في الحسبان التطوُّرات العلمية والسياسية المعاصرة.
على سبيل المثال، في أفغانستان، تتجاهل بعض الحركات الدينية قيمة الشورى، بحجة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه مجلس شورى منتظمٌ. ومع ذلك؛ فإنَّ الفهم المتجدّد للشورى كآليةٍ سياسيةٍ ضروريةٍ لمواكبة تعقيدات العصر، يجب أن يؤخَذ بالحسبان.
هل الدين هو الحل لكل شيءٍ؟
الدين يحتوي على إجاباتٍ محتمِلةٍ لكثيرٍ من الأسئلة، لكنَّه ليس الحل الشامل. بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توقَّفت المعجزات، وبدأ الناس يعيشون وفق قانونٍ واحدٍ: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا﴾ [النساء: 123-124]؛ وهذا يعني أنَّ الإنسان يجب أن يعتمد على عقله واجتهاده في التعامل مع الواقع.
في النهاية، ليست مسألة الدين والنهضة مسألةً يمكن حلُّها بمجرد العودة إلى نصوصٍ تقليديةٍ، أو اتّباع منهجٍ معيَّنٍ؛ فالتحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحقيق التوازن بين القيم الدينية والمكتسبات البشرية المعاصرة؛ إنه طريقٌ يتطلَّب إعادة التفكير العميق والعمل المشترك بين مختلِف الأطياف الفكرية للوصول إلى نهضةٍ تحقِّق التقدُّم دون الإخلال بجوهر الهوية الدينية.
تحرير: د. إياد دخان