الثقافة والهوية وتحديات الهجرة واللجوء
د. عامر خطاب
تشكّل الثقافة الإسلامية هوية المجتمعات العربية والإسلامية، فهي دينهم ورسالتهم التي يؤمنون بها ويحيون من أجلها، ولم يكتب العرب في أي مجال من مجالات العلوم كما كتبوا في العلوم الإسلامية المتمثلة بتفسير القرآن الكريم وما يتصل به من علوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والفكر والحضارة والتاريخ.
حتى تلك الحروب التي خاضها العرب كانت تحت راية نشر الإسلام أو الدفاع عنه، والحملات التي غزت بلادهم كانت حملاتٍ مقدسةً تهدف فيما تهدف إليه إلى تجهيلهم ومحو ثقافتهم ودينهم.
ويوضح جعفر بن أبي طالب للمرة الأولى جوهر رسالة الإسلام للآخرين فيقول للنجاشي في الحبشة عندما سأله: "ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم، ولا تدخلون في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا قوماً على الشرك: نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم، ولا نعبد غيره، فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم، قال: هلمّ فاتلُ عليّ ما جاء به، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) [سورة مريم] فبكى والله النجاشي حتى أخضلَ لحيته، وبكت أساقفتُه حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة الذي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين"([1])
ولما وصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم في صدر الدعوة الإسلامية، قال هرقل: " هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقالوا نعم، قال أبو سفيان: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذَبني فكذّبوه، فقال أبو سفيان: وايم الله، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قال: قلت: لا، قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم، قال: يزيدون أو ينقصون قال: قلت لا بل يزيدون، قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: قلت نعم، قال: فيكف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قال: قلت لا، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت لا،.....ثم قال: بم يأمركم؟ قال: قلت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، قال: إن يك ما تقول حقاً فإنه نبيٌّ، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أك أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدميّ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و(يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) إِلَى قَوْلِهِ: (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] فلما فرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا"([2])
إن هذه الرسالة التي تتسم بالربانية والإنسانية وتدعو إلى مكارم الأخلاق وتنهى عن رذائلها، وتعلم الإنسان أن يهتم بعظائم الأمور ويبتعد عن سفاسفها، وتأمر بتوحيد الله عز وجل وعبادته والدينونة له دون سواه هي هوية المسلمين، تمثل خصوصيتهم الثقافية وتدعوهم إلى صونها وحمايتها وعدم الانصهار في ثقافات وحضارات الآخرين.
وفي ظل ما تمر به أغلب الدول العربية من حروب وتوتر في الأوضاع السياسية والاقتصادية تشير الإحصائيات الرسمية إلى ملايين العرب من السوريين، واليمنيين، والعراقيين، والسودانيين، وغيرهم ممن غادروا أوطانهم، وراحوا ينشدون الاستقرار والسلام في بلاد الغرب والأعاجم في الشرق، ولذلك لا بد من الإشارة إلى ما يهدد أبناء هؤلاء اللاجئين من مخاطر التغيير الثقافي، وضياع الهوية، واللغة.
وإذا كان حرص هؤلاء اللاجئين على تحقيق الاندماج الكامل في الأوطان الجديدة مبرَّرًا لتحقيق الاستقرار والمواطنة والحصول على الجنسية وتأمين مستقبل الأبناء وزيادة فرص الحصول على عمل، فمن غير المبرر أن يصل الاندماج إلى حد الانصهار والتحول الكامل نحو لغة وثقافة جديدة، فمن حق الأبناء على الآباء أن يعتنوا بثقافتهم ودينهم ولغتهم، ولا يكفي أن تكون اللغة العربية لغة محكية في البيوت يتكلم بها الآباء مع الأبناء، بل لا بد من أن تكون آلة العلم بحيث يتقن الطفل قراءتها وكتابتها والتعلم بها، وإن الملايين من أبناء العرب الذين وصلوا إلى بلاد أعجمية تداهمهم العجمة وتغيب لغتهم وثقافتهم كل يوم، وإذا كان الجيل الناشئ الآن يتكلم العربية فإن الجيل القادم لن يفهم سوى كلمات قليلة منها، وأما الجيل الذي يليه فسوف يولد منصهراً في حضارة وثقافة جديدة.
إن واجب الآباء العرب المقيمين في بلاد غير عربية أن يحرصوا على لغة أبنائهم الأصيلة، إذ بها يعرفون هويتهم ويفهمون دينهم ويقرؤون كتاب ربهم وسنة نبيهم، وبها يفهمون وجودهم وتاريخهم وحضارتهم ورسالتهم في الحياة.
وإن الاهتمام باللغة والثقافة العربية لا يلقى على عاتق الأسرة فحسب، بل من واجب المؤسسات العلمية ومنظمات المجتمع المدني أن تستشعر هذا الخطر، وتعمل على تأطيره وتنشط في مجال المحافظة على خصوصية الشعوب المهاجرة لتكون لونًا من ألوان التعدد الثقافي ومصدرًا من مصادر تنوّعه وثرائه، كما لا بد من الانتباه إلى حملات الإلحاد والتشكيك في الدين وتحصين الأبناء من الوقوع في شبهات الملحدين، ولا بد من العناية بجانب الثقافة الجنسية وحماية الأبناء من الوقوع تحت تأثير دعوات الشذوذ الجنسي بحجة الحرية والحقوق الشخصية، وفي هذا الإطار نضع النصائح والتوصيات الآتية:
1- أن تعمل المؤسسات الخاصة بإعداد المناهج العربية على إنتاج منهج يتناسب مع أبناء العرب المقيمين في دول أجنبية، وهي مناهج تختلف عن مناهج تعليم العربية للناطقين بغيرها.
2- أن ترعى الدول العربية والمؤسسات الخيرية افتتاح مراكز تعليم اللغة العربية لأبناء العرب في الدول الأجنبية.
3- أن يحرص الآباء والأمهات على توفير القنوات العربية الهادفة ضمن قنوات التلفاز والانترنت.
4- أن تكون اللغة العربية لغة التخاطب في البيت وما بين الأصدقاء وأن تكون لغة أجهزة الاتصال.
5- أن يحرص الآباء والأمهات على توفير مكتبة عربية صغيرة في البيت.
6- إنشاء صندوق دعم التعليم العربي في الدول الأجنبية من خلال التبرعات العامة بحيث يغطي تكاليف المراكز وأجور المدرسين.
7- أن تتبنى المؤسسات الوقفية والخيرية قضية تعليم العرب المهاجرين وتركز على قضية الهوية
من خلال عقد المؤتمرات ومناقشة الحلول.
8- أن تعمل المؤسسات الدعوية والإسلامية على إعداد البرامج المبسطة التي تحمي أبناءنا من الإلحاد.
9- أن تعمل المؤسسات التربوية والدعوية على إعداد برامج الثقافة الجنسية التي تتناسب مع أعمار المراهقين وتحصنهم من الإباحية والشذوذ.
10- أن يهتم المعلمون بالاطلاع على الكتب والبرامج التي تناقش قضايا الإلحاد والشذوذ الجنسي والأخلاقي لمعالجة ما قد يعرض لهم من أسئلة خلال عملية التدريس.
([1]) سيرة ابن إسحاق، محمد بن إسحاق المدني، تحقيق: سهيل زكار، (1978): الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت، ج1، ص 215.
([2]) صحيح البخاري، باب: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة، رقم الحديث: 4553، ج6، ص 135.