هل قولنا أو وصفنا للجيل بأنه جديد يستدعي على الفور الإدانة واللعنة، فإذا اجتمع الجيلُ وجِدَّتُه ، وحظينا بمركب "الجيل الجديد" أصبح محل اشتباه وخوف واستبعاد؟
هناك من يقول بهذا بلا شك، ويتبادل الكثيرون حواراً حول ذهاب الزمن القديم الجميل وحلول الزمن الجديد الملعون، وربما يزيد من حجج بعض المتدينين القائلين بهذا اللعن وهذه الإدانة والاستبعاد القراءةُ الخاطئة لأحاديث "خير القرون قرني.. "و"أحاديث نهاية العالم" و"حديث لكع بن لكع" ، فنحن أمام سردية تم تفسيرها بطريقة إغلاق حسابات الوجود والتعجل للخروج منه من دون التحقق بمرادات الله ومقاصده من وحيه لنا وطلب الاستخلاف.
لا يشك أحد أن المرحلة التي نعيشها ينتابها ضبابية عجيبة غريبة فهي تجمع وصفين متناقضين بشكل ولو ظاهرياً:
الوصف الأول: هو ظهور جيل من الشباب يؤمن بحقوقه لا مسؤولياته ولا واجباته، ويرى أن الدنيا ليست إلا مساحة لتحصيل متعه وشهواته وسعادته على شرط جمعها ومراكمتها وتكديس المتع فوق بعضها.
الوصف الثاني: أن هذا الجيل نفسه عالق في شكل من أشكال الجبرية الجديدة التي تتبدى صورتها أو قشرتها كأنها إرادة حرة يمارسها الجيل بكل سهولة محققاً من خلال ممارستها حقوقها المُتعية، غير أن باطن هذه الصورة أو مضمونها هو تبعية ومسؤوليات وواجبات بل هي في الحقيقة "إذعانات" لا تُعد ولا تحصى، هناك تحكم شديد بوعي الجيل الجديد ويتم من خلال توجيهه إلى ما يفعله أو يتركه يحترمه أو يهمله يجعله "ترند" أو يمر مروراً لا يُرى.
بين صورة الإرادة الحرة (الحق= حقي) ومضمون الإذعان (الواجب = واجبي) تنمو العقول في حالة من الانفصال والمقاومة، هناك قطعان تُقاد وليس إراداتٌ تُحدَّد وتُقيِّم وتُقرر وتَختار وتُمارس الحرية والإرادة المستقلة، لكن هذه القطعان كذلك لا يمكن التنبؤ بمسارها المستقبلي الذي يمكن أن تتحرر بأداة استعبادها نفسها.
وهذا النموذج بلا شك له مقدماته السياسية والثقافية والاقتصادية، نستطيع أن نرصدها مع نشأة الدولة الحديثة وتنمية الأفراد وصناعة ذواتهم الجديدة من أجل صناعة الانتماء للوطن باعتباره القيمة العليا وينتمون لطموحاته وممارساته وثقافته، وكانت الأداة الأكبر لهذا التنميط هو العلم والآلة والمصنع وتقسيم العمل وتراكم الثروة وفي المحصلة الدولة الحديثة.
ويعنيني هنا ما انتهى إليه الجيل الجديد وخاصة الشباب من جمعهم بين كل شيء والمتعة، فالمتعة تستولي على الإنسان، خاصةً وأنها أصبحت في جيبه. إن الهاتف يكاد يصبح أيقونة للمتعة لا تفارق الإنسان حيث كان في بيئته في بيته وعمله وفي وحدته ومع غيره، وفي الداخل والخارج، لقد استولت المتعة وتسلطت على الإنسان.
ولكن هل علاقة الإنسان مع المتعة حديثة العهد أم هناك تاريخ طويل من هذه العلاقة تطورت وتبدلت وتراكمت؟
أو بالأحرى سؤالي ما هي العلاقة بين الحياة والمتعة وهل المتعة لعنةٌ على الإنسان أم أنها ممارسة حيوية لا بد منها كفطرة فطره الله عليها؟
ننظر في حياة "آدم عليه السلام" كما جاءت في الكتاب الكريم فنجد كثيراً من الآيات تقول بما هو متعة ويشبه المتعة ويدل على المتعة "وكلا منها رغدا" و"فكلا من حيث شئتما" و "ولقد كرمنا بني آدم ورزقناهم من الطيبات" و "خذوا زينتكم" وهذه كلها وجه من أوجه التمتع بلا شك فيكون أبونا آدم قد استمتع وحصل هذه السعادة التي تأتي بها هذه المتع.
إذاً لا بد من أن نحذر من إدانة المتعة نفسها لأن الواجب هو منازعة كثافة الاستمتاع وطول زمانه وشغله للشباب عن كل شيء آخر واستيلائه على نفوسهم، فالإشكال يجب أن ينحصر في درجة المتعة ونوع المتعة وليس المتعة بحد ذاتها.
وأريد أن أسوق بعض جوانب من واقع المتعة والاستمتاع والتي استلهمتها من كتاب " تطور المتع البشرية- رغبات وقيود" من الواقع الذي يحيط بنا ويندر أن يقاومه إلا القلة النادرة، فمن خلال هذه الوقائع والحالات سوف نُبصر وربما نتبين آليات للتعامل مع آفات المتعة وتوجيهها، وندرك سقفَ الرفض الممكن بل المعقول الذي يمكن أن يمارسه الإنسان اتجاهها:
● المتعة هي ضرورة لا بد منها من أجل البقاء الإنساني والتوازن النفسي سواء للأطفال أو للكبار وهي ذات تاريخ طويل مع الإنسان نستطيع أن نقول أنها بدأت منذ أبينا آدم.
● تنوعت عروضات الأطباق الجاهزة إلى حد أن هذه المنتجات باتت تسمح لمستهلكيها بتنويع وجباتهم وهكذا يتحاشى التعود والسأم، فعندما كان الطعام شبه معدوم كانت المتعة معدومة ثم حصلت الوفرة أصبح الطعام بحد ذاته استمتاعاً.
● تزداد صعوبة الإحساس بالمتعة بأطعمة أكثر بساطة إذا ما جرى التعود على مثيرات أقوى والتي تمثل الأطعمة الغنية بالسكر والدهون، ومعلوم أن السكر هي نبتة المُتعة التي تغلغلت في شريان من شرايين الاقتصاد الغذائي، وليس الحلويات فقط.
● المجتمعات تفتقر إلى الحماية إزاء المكافآت الرخيصة الثمن وانتهاء بمكافآت مواقع التواصل الاجتماعي بكل أنواعها، الربح الرخيص السريع والشهرة والتأثير والأفلام والصور والعلاقات التي تُحدث إثارة عميقة في النفس.
● الأجواء المولدة للإحباط تشجع الانتقال من التعود إلى التبعية، ما يعني أن استيلاء المتعة على الأفراد عموماً له مدخل نفسي يتعلق بفشل التربية والعلاقات في الأسرة والمجتمع.
● أتاحت الثورة الصناعية التوسع في الامتلاك والخدمات وبالتالي تشعباً في المتعة بحيث تشمل كثيراً من الأفراد ولا تبقى وقفاً على عدد من المحظوظين.
● لكي تستطيع تنويع مصادر المتعة يجب أن يكون بمقدورنا الاعتماد على مجتمع فاعل يستطيع كسب الوقت، وهذا هو الذي تحقق بفضل الصناعة ثم التقنية المتقدمة، فضلاً عن دمج المتعة بالعمل بحيث أصبحت هي العمل والمورد المالي.
● لا ترجع تقنيات التسلية المستهلكة للوقت إلى نهار أمسِ ولكنها شهدت توسعاً مضطرداً في النصف الثاني من القرن العشرين كانت المطبعة أول تقنية التسلية التي انتشرت على نطاق واسع تلاها البيانو ثم الحاكي والراديو والسينما والتسجيلات المتناهية الدقة الهاي فاي والتلفزيون وشرائط الفيديو والسي دي والوكمان والآيباد والدي في دي ثم سينما المنزل وألعاب الفيديو والإنترنت إلى ما وصلنا إليه اليوم وكلها توفر تقنيات التسلية وإثارة الحواس ومكافآت فورية لجميع أفراد العائلة من الرجال والنساء والأطفال.
● الأطفال هم الأكثر قابلية للاستسلام لسحر التلفزيون وأخواته، ذلك لأنهم يؤثرون الحصول على مكافآت فورية بدلاً من الحصول على مكافآت مستقبلية مثل مكافآت الدراسة والتي تتحقق مكافآتها بعد إنهاء الدراسة في المدرسة أو الجامعة.
● تحاول البرامج التلفزيونية وغيرها مقاومة الميل إلى التعود وإبطال التحسس والإشباع من خلال التوجه إلى مشاهد أكثر عنفاً أو إلى مشاهد جنسية فاضحة وإلى صور أسرع، ومؤخراً إلى العروض الواقعية لكي تتمكن من الحفاظ على الإثارة.
● عندما حل التلفزيون مكان المجلات كوسيلة للإعلانات تراجعت التعبيرات السكونية لصالح المفاجأة والابتكار البصريين الهادفين إلى تلاف التعود وعدم التفاعل.
● تُولد الإعلانات إحساساً بالفقر عند المشاهد.
● أدى سيل المكافآت الجديدة لتأكل القدرة على التمتع بها لأنها تتطلب وقتا وانتباهاً للتمكن من التحكم فيها، ويولد الاكتظاظ هذا النمط من سيل الفرص الجديدة بحيث تصل المكافآت بسرعة كبيرة دون أن تجد استراتيجيات أخذ الحيطة والرقابة الذاتية متسعاً من الوقت إلى تكون جاهزة، وبالتالي يصعب قيام التوازنات ولا تصلح الأجيال السابقة لأن تقوم بدور المرشد، إنهم يواجهون المبتكرات هم وأبنائهم في الوقت نفسه وعليهم تعلمها فيصبح الوقت عائقاً عوضاً أن يكون حليفاً.
● عندما تكبر فرص الاختيار تميل القيمة المتعلقة بما تم اختياره إلى التراجع ذلك لأن هناك احتمالاً دائماً بأن تكون البدائل أكثر بعثاً للرضا، كما أن الجهد المعرفي والعاطفي الذي ينبغي بذله من أجل الاختيار يزيد مع ازدياد عدد الخيارات مما قد يكون مثبطاً للهمة.
● نحن نتعرض لقصف من صور وحالات جذابة بشكل لم يعرفه البشر من قبل وقد ينجم عن هذا توقعات غير محسوبة بدقة.
● بين المكافآت الفورية والمكافآت المستقبلية، بين المنزل والتبعية، بين المنافسة والتعاون، بين الحاجات الفردية والحاجات الجماعية، بين متع جيلنا ومتع الأجيال القادمة تزداد تعقيدات الاختيار علينا.
● إذا كان لا بد من اتخاذ إجراءات ذاتية أوليّة للحفاظ على طاقة المتعة المستقبلية فهي تلك الهادفة إلى تأمين أفضل بيئة ممكنة لأبنائنا، حب اليوم يؤمن لهم متعة الغد.