لكي تتجدد الذات وتتسم بشخصية قيادية وأخلاقية عليها أن تتبع طريق تربية الذات على المنهج التربوي الإسلامي، وأقوى نموذج أخلاقي اليوم يبين لنا كيف يصبح للألم معنى، وكيف أصبح القلب مشدوداً بالأمل، وكيف تنسج الذات الغزاوية من الوقت خططها رغم رماد الحريق، إنه النموذج الغزاوي الذي أدهش العالم وحيّره بقوة صبره وإيمانه ونور يقينه فأصبح العالم يتساءل، من أين هذه القوة والإرادة الفائقة؟ ومن أين هذا العزم؟ فكان الجواب في اليوم المشهود "يوم طوفان الأقصى"، هذا الفعل الذي بزغ من قوة "الفكرة الإيمانية" إلى قوة "الفعل النضالي"، إنها من طاقة الروح الغزاوية التي تعد نموذجاً لصناعة الذات على القيم الإسلامية الفعالة، الصبر والشجاعة والمسؤولية والقوة، والعناية بالأسير.
الذات الغزاوية قدمت دروساً ورسائل قوية للعالم لن تُنسى، لأنها فعلاً صنعت المقاومة ونشرت الأمل والقوة الأخلاقية، فهي ثورة على الانحطاط والتطبيع والخوف، كل يوم تصلنا دروس من هذه الذات الغزاوية من أجل إعادة بناء الذات ومن أجل مراجعة المفاهيم، وكذا تمحيص النماذج المعرفية والقيمية السائدة.
الذات الغزاوية نسجت لنا إرادتها الخيّرة والصامدة من أجل مراجعة أنفسنا ومراجعة مفاهيمنا، وتفكيك مناهج التعليم وتحليل الرؤى العالمية، وتحطيم ألواح السفسطة التي تنادي بالقيم العالمية وترفع الشعارات العلمانية بمختلف اللغات، "طوفان الأقصى" كشف نوايا ومقاصد الآخر، خاصةً في إزاحة الستار عن وجه الفيلسوف الزائف والنرجسي، الذي اتضح بفعله التهويدي للأفكار وتطبيعه للنماذج المعرفية، فأصبح الفيلسوف والمفكر اللاأخلاقي لا يقول كلمة الحق، بل يتبع الباطل بسبب الفكر التهويدي المتسلط الذي يتبعه.
يجب أن تستفيق وتحيا الذات العربية، لأنها لم تعد تتفقه معاني الجهاد والمقاومة، فلابد أولاً أن تتطهر الأنفس والعقول، وتخرج من ظلمة الوجود لكي تشرق بالنور الإلهي الموجود، ولا يظن الظان أن هذه الطاقة تنفتح بالغفلة أو بالقلب المحجوب بالشهوات والمعاصي، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة وتخلَّصَ من الغضب والمتعة والنرجسية وفتح عين الباطن وسمعه.
إذن فأول منازل العبودية هي اليقظة؛ "وهي إنزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة! وما أعظم قدرها! وما أشد إعانتها على السلوك! فمن أحسّ بها فقد أحسّ والله بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سُبي منها فأخذ في أُهبة السفر، فانتقل إلى منزلة العزم وهو العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومُعوّق ومرافقة كل معين ومُوصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه وبحسب قوة عزمه يكون استعداده، فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة ''الفكرة'' وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملاً، ولـمَّا يهتدِ إلى تفصيله وطريق الوصول إليه، فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة، فهي نورٌ في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار"[1].
تموت الذات حين لا تتجدد وتبقى أسيرة آلامها وشهواتها، ولا تسعى للبحث عن مسالك التهذيب والطهارة أو الرياضة النفسية، لذا يجب تحطيم ألواح القيم السلبية وإعادة كتابة القيم الأصيلة لتحرير الذات من مشاعر الفراغ والعدم، ويقول هنا نيتشه: "ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولاً، ومنهم من يدب الهرم في عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة، غير أنَّ من يبلغ الشباب متأخراً يحتفظ بشبابه أمداً طويلاً، ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم، فعلى هؤلاء أن يعملوا على بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل"[2].
فلا بد تعليم الناس معنى وجودهم، وتعليمهم كيف يتأملوا في منهج حياتهم لكي لا تكون أعمارهم أرقاماً فارغةً تذروها الرياح، فالإنسان الفاقد للمعنى هو الإنسان الأبتر الفاقد للوجهة، الذي قد يحصل له التكاثر لكن لا يحصل له التكوثر، والمقصود بالإنسان الأبتر هو "الإنسان الذي لا يستثمر من قواه ولا يُحقق من إمكاناته إلا قدراً ضئيلاً، إما لتعطّل بعض قدراته واستعداداته، أو لصرفها كلها في وجهة مخصوصة، أو لوجود ضيّقٍ في تصوّره لمكنونات الإنسان الواسعة، ويبدو أن العصر الحديث حصّل تقدُّمه المادي بفضل هذا الإنسان الأبتر حيث يختص كل فردٍ بإنتاجيةٍ محددةٍ يصرف إليها كل طاقاته، أما الإنسان الكوثر، فهو بخلاف الإنسان الأبتر، لايكتفي بأن يستثمر كل قواه وملكاته، إحساساً و وجداناً، خيالاً وعقلاً، ذاكرةً وإرادةً، ويحقق مختلف إمكاناته ومكنوناته، بل أيضاً يذهب بهذا الاستثمار للقوى والتحقيق للإمكانات إلى أقصاهما، بحيث يتاح له أن يتقلب في أطوار سلوكية مختلفة، وينهض بوظائف عملية متعددة، كل ذلك يورّثه القدرة على أن يحقق التكامل لذاته"[3].
فالإنسان الكوثر هو الذي يشتغل دائماً بإحياء روحه وقلبه، ويسعى إلى تفعيل طاقة الإيمان في كل أفعاله "والحال أنَّ هذا التأثير الشامل للإيمان لا يتأتى إلا إذا بلغ الإيمان في النفس من القوة والصفاء والسمو درجة يتحول معها إلى طاقة فعّالة تتدفق في كل قوى الإنسان، ظاهرةً كانت أو باطنة فتصطبغ، عندئذٍ، بها كل أعماله وتصرفاته، متجهةً إلى أن تفتح في نطاق مدركاته ومعلوماته آفاقاً وأبواباً غير مطروقة لم تكن لتفتح له لولا صريح إيمانه"[4].
الاستهلاك الفائق كان سبباً في تمزيق نسيج الذات المسؤولة والمحبة، وكذا في تخدير الحس الأخلاقي العالمي:
كل أنواع التسوق والتفنن في الشراء ومظاهر الاستهلاك المفرط (عبودية الاستهلاك) له آثار سلبية على النفس والفكر، لذا يمكننا المكاشفة والاستدلال على هذا من خلال الرجوع إلى النصوص الأخلاقية التهذيبية لأبي حامد الغزالي؛ وذلك في حديثه عن غلبة النفس وظُلمة الشهوات وبالأخص شهوة البطن، فيقول "النفس صنم، فمن عبد النفس فهو يعبد الصنم، ومن عبد الله بالإخلاص فهو الذي قهر نفسه،...قال يحيى بن معاذ الرازي: جاهد نفسك بالطاعة والرياضة، فالرياضة: هجر المنام وقلة الكلام وحمل الأذى من الأنام والقلة من الطعام، فيتولد من قلة المنام: صفو الإرادات، ومن قلة الكلام: السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى: البلوغ إلى الغايات، ومن قلة الطعام: موت الشهوات، لأن في كثرة الأكل قسوة القلب وذهاب نوره، نور الحكمة الجوع، والشبع يبعد من الله... ولقد شبه ذلك بعض الصالحين بأن المعدة كالقِدر تحت القلب تغلي والبخار يصل إليه، فكثرة البخار تكدره وتسوده، وفي كثرة الأكل قلة الفهم والعلم فإن البطنة تذهب الفطنة" [5]،لأن غلبة الشهوة تضيّق على العقل سبل التفكير الاجتهادي والعمل الإبداعي، فالشهوة تُصَيِّر الملوك عبيداً.
إذن لا بد أن نتفقه المقولات والأفكار التي ترسم معالم المنهج في حياتنا، والتي تبني منظومة أفكارنا وقيمنا، لأن الذات المعاصرة أصبحت مُعَلْمَنَة في الفكر والسلوك، فانتشرت ثقافة حب النفس والثقة بالنفس انتشار النار في الهشيم، وهكذا بدأت تتحقق أسطورة نرجس في الواقع وتلازم كافة أنشطة الإنسان السلوكية والإجتماعية والثقافية.
إذن فالعلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان...فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية والعلاقة الدينية معاً من الوجهة التاريخية على أنها حدث، ومن الوجهة الكونية على أنها عنوان على حركة تطور إجتماعي واحد"[6]، لقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
لذا نجد الإنسان النرجسي غافل عن قراءة معاني الأخوّة الحقيقية، وعن مفهوم التراحم والتضامن والتعاون، وعن معنى العلاقات الاجتماعية التراحمية التي لا تربطها مصالح مادية، لأن قلبه محجوبٌ عن فهم المعاني الإلهية، ولأنه في ظلمة العُجب والغرور أو الإعجاب بالنفس، فهناك دائماً صوتٌ داخليٌ صادرٌ من النفس الشهوانية يبحث عن تضخيم وإظهار الأنا، فالواجب هنا هو تهذيبه وإلجامه والاتجاه للبحث عن الأسرار والمعاني الحِكمية التي تكون مركز الإنطلاق والتواصل للعلاقة بين القلب الحي والله سبحانه وتعالى.
[1] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين،ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ص138.
[2] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، تر: فليكس فارس،دار الوطن، 2020،ص79.
[3] طه عبد الرحمن، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر،المؤسسة العربية للفكر والإبداع،بيروت،ط2، 2016 ،ص44-45.
[4] المرجع نفسه،ص 45
[5] أبي حامد الغزالي، مكاشفة القلوب المقرب إلى علام الغيوب،القاهرة،2021 ،ص ص19-21-23.
[6] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية، تر: عبد الصبور شاهين،دمشق: دار الفكر المعاصر، 2006، ص56.