محمد عزيز الحبابي وأفلاطون... عصران مختلفان بقيم واحدة

محمد عزيز الحبابي وأفلاطون... عصران مختلفان بقيم واحدة
القيم الثلاثة عند الحبابي 
في كتاب دفاتر غدوية للفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، أشار إلى ثلاث قيم على الذات أن تتصف بها، وهي: الحقيقة، الخير، الجمال.
فتبادر في ذهني سؤال، فقلت: لماذا خصّ هذه القيم الثلاثة بالتحديد، ولم يتحدث عن قيم أخرى كالفضيلة، والحق، والعطاء مثلاً؟
تأثر الحبابي بالفكر الأفلاطوني
بعدما بحثتُ جيدًا في الموضوع، تبيَّن لي أن هذه القيم الثلاثة قد تحدّث عنها الفيلسوف اليوناني أفلاطون من قبل، وربما يبدو لي أن محمد عزيز الحبابي قد تأثر به من ناحية هذه القيم، ويحاول تطبيقها وتفعيلها وإحضارها في العالم العربي الإسلامي.
ويفترقان فقط في أمر واحد، وهو أن أفلاطون يناقش هذه القيم من منظور عقلاني (مثالي)، بينما يناقشها محمد عزيز الحبابي من منظور روحي وذاتي (شخصاني).
رؤية أفلاطون للمُثُل العليا
يُعرَف أفلاطون بفلسفته التي تقرّ بوجود عالم مثالي، وتعدّه هو العالم الحقيقي، على عكس العالم الواقعي الذي يراه عالمًا مُزيَّفًا.
ويؤكد أفلاطون أن العقل هو المصدر الأول للمعرفة، ولا يعترف بالحواس، ولهذا السبب قسّم الوجود إلى عالمين، وسمّى القيم الثلاثة - الحقيقة، الخير، الجمال - بـ «المُثُل العُليا»، كما ورد في كتاب الجمهورية.
مفهوم الحقيقة عند أفلاطون
تتمثّل الحقيقة عند أفلاطون في ما ذكرتُ سابقًا، أي في عالم المُثُل، أمّا العالم الحسّي فهو عالم مُزيَّف. وقد أكّد على الإنسان أن يسعى إلى عالم الحقيقة وأن يعترف بها ويتحدث عنها.
كما يقول المثل الأسبرطي: «إن الفن الحقيقي هو الحقيقة» (أفلاطون، الجمهورية، ص 23).
ويرى أن العالم الحسّي ما هو إلا نسخة عن عالم المُثُل. ومثال ذلك أن نقول: إن الكرسي الذي نراه ليس إلا نسخة مزيفة عن الكرسي الحقيقي الموجود في العالم المثالي بصورته الأصلية.
مفهوم الخير عند أفلاطون
أما الخير عند أفلاطون، فهو المبدأ الأسمى، وأهم ما يرتبط به هو الأخلاق، وقد سمّاها «أخلاق السعادة».
فالروح لا تسعد إلا إذا كانت متخلقة، وتسعى إلى فعل الخير بكل أشكاله.
يقول سقراط: «إن سعادتها - أي الروح - ليست في الأشياء المادية التي تُرضي الملذات الجسدية، بل سعادتها في معرفة الخير، وعمل الخير، واكتساب الحكمة» (أفلاطون، الجمهورية، ص 28).
إن عمل الخير ومحاولة تفعيله في المجتمع يُفضي إلى سيادة قيمة الفضيلة في كل الأرجاء.
الخير - الأخلاق - السعادة - الفضيلة
مفهوم الجمال عند أفلاطون
أما الجمال، فقد ابتكر أفلاطون مفهومًا أسماه المحاكاة، وطبّق نظرية المُثُل عليها. ويرتبط الفن عنده بالجمال، لأن الفنّ في جوهره جميل وجليل، وضدّه القبح.
فالوردة الجميلة مثال على الفنّ والجمال، وكذلك اللوحة الفنيّة، إذ كانت في الأصل صورة حقيقية في عالم المُثُل، ثم قمنا بمحاكاتها في العالم الحسّي. فالفنان يرسم ما في مخيلته من صورة مثالية موجودة في عالم المثل.
ويقول أفلاطون إنّنا - بصفتنا فنانين - لسنا سوى ناقلين لتلك الصور، ولسنا فنانين حقيقيين.
فلسفة الحبابي في القيم الثلاثة
بعدما غصنا في أعماق الفلسفة اليونانية عند أفلاطون وحديثه عن المُثُل العُليا الثلاثة، ننتقل مباشرة إلى صاحب مبدأ الشخصانية في الفكر العربي الإسلامي، وهو الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي.
وحسب رأيي، فقد وضع هذه القيم الثلاث على ضوء مبادئ فلسفته الشخصانية القائمة على أسس إسلامية. فهو يربط قيمة الحقيقة بالإيمان، أي الإيمان بالحقيقة والتمييز بينها وبين الزيف. ويرى أن الإيمان يؤدي إلى ارتقاء الذات، فيقول:
«وهذا يعني أن الإيمان شهادة على ميل الإنسان إلى تجاوز الذات نحو الأحسن، من منظار قيَمٍ تستحق التقدير والإجلال... ومن الواقع المشاهَد أيضًا أن الإيمان شهادة على ميل الإيمان الصادق، فهو يعيد للناس الثقة بالنفس، ويعزّز التعاون والإخاء.»
(محمد عزيز الحبابي، دفاتر غدوية، الدفتر الأول: أزمة القيم، ص 49)
الخير في فلسفة الحبابي
أمّا الخير عند الحبابي، فيتمثّل في الإحسان، فكلّما أحسن الإنسان إلى غيره كوَّن مجتمعًا مُحسنًا، يسوده العطاء والتكافل. ويرى أن الأنانية تُفسد الروابط الإنسانية، وتؤدي إلى الكذب، وهو ما كان الحبابي يكرهه أشدّ الكره، لأنّه مناقض للشخصانية ويؤدي إلى غياب الثقة بين أفراد المجتمع.
فالخير، في نظر الحبابي، هو صفة الإنسان العربي المسلم الشخصاني، ويتجلّى في الحفاظ على إنسانية الإنسان.
الجمال في فلسفة الحبابي
وأمّا الجمال عنده، فيتمثّل في الذوق، فكلّ إنسان يختار ميوله وذوقه الخاص بحرّية تامة.
يقول الحبابي:
«مفهوم الاستقلال الذاتي هنا هو ذلك الشيء الخاص بكلّ شخص، نعني به واقع فرديّته المخصوصة له.»
(محمد عزيز الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ص 11)
ويقصد بذلك أن الذوق وسيلة لطرد القبح الروحي عن الذات الإنسانية، وتجسيد لجمالها الداخلي في سلوكها ومواقفها.
خلاصة المقارنة بين أفلاطون والحبابي
نستنتج في النهاية أن محمد عزيز الحبابي - في رأيي - قد اتّخذ من القيم العُليا الثلاثة عند أفلاطون قاعدةً أساسية لبناء المجتمع الذي تسوده القيم الفاضلة. ومن خلالها بنى فلسفته الغَدَوِيّة، إذ رأى أن مجتمعنا الراهن، كما يقول، يعيش أزمة فقدان لهذه القيم الثلاثة، ولذلك سمّى دَفتره الأول بـ أزمة القيم.
فغياب هذه القيم يُعدّ ناقوس خطر يدقّ في ضمير الإنسان، ولذلك دعا الحبابي إلى تطبيق مبادئ التشخّصن: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسن.
ومن هذا التدرّج نصل إلى نتيجة مفادها:
«La philosophie de demainisme, c’est la renaissance des valeurs, et appliquer ces valeurs dans la société.»
أي: فلسفة الغد هي محاولة لإحياء هذه القيم وتطبيقها في المجتمع الذي تسوده القيم الفاسدة.