التقدم وصناعة الاهتمامات

التصنيف

المقالات

التاريخ

25/08/2023

عدد المشاهدات

283

الملف

تصفح ملف PDF

أ.د. عبد الكريم بكار  [1]

تمهيد:

لعل أكبر مشكلة تواجه الدول النامية أو المتخلفة هي تحديد الأسباب الحقيقية التي جعلتها تعيش على هوامش الحضارة وأطراف العالم المتقدم، وما ذلك إلا بسبب انخفاض درجة وعيها بنفسها وإمكاناتها والتحديات التي تواجهها، ومن هنا فإن حاجة الأمة ماسّة إلى أن تضغط بأصبعها على موضع الداء، وأن تسعى إلى تحديد الأسباب الجوهرية التي أدّت إلى الإصابة به، لتهتدي بالتالي إلى سبيل الشفاء.

 في اعتقادي أن أفضل طريقة لتحديد أسباب التخلّف تكمن في البحث عن القواسم المشتركة، ونقاط الالتقاء لدى كل الشعوب التي تعيش على حوافّ العالم اليوم، وإذا وصلنا إلى هذا الحدّ من القول، فإنني أرى أن سمة "فقد الاهتمام" تعدّ من السمات العامة التي يمكن أن نشاهدها أينما تجولنا في أصقاع العالم النامي، ومنه بالطبع العالم الإسلامي، حيث يتجسّد في سلوك الناس شعار "لا شيء يهم" وحيث ترى سيلاً لا ينقطع من المواقف التي تنمّ عن عدم الاكتراث واللامبالاة، وفي المقابل فإن معظم الناس في العالم الصناعي يهتمون بالأشياء الصغيرة والصغيرة جداً، وتستوقفهم التفاصيل الدقيقة ويحاولون حساب كل شيءٍ إلى حدّ الوسوسة.

 حين وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة، اندفع كثيرٌ من الناس هناك إلى شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وحضر بعضهم دورات في المراكز الإسلامية من أجل فهم الخلفية الثقافية لمن اتهموا بتلك الأحداث، أما عندنا فمن أندر النادر أن ترى شخصاً يحاول سبر أغوار الثقافة الأمريكية أو معرفة طبيعة القوى التي تواجه حركتها، ولذا فإن من الممكن القول: إن درجة اتساع اهتمامات أي أمة هو معيار حقيقي لمدى تقدمها ومعاصرتها، والعكس صحيح.

ولعلي أستجلي في هذه القضية النقاط الثلاثة الآتية:

أولاً: إن الذي ينظر بعمق إلى المرامي البعيدة لآيات القرآن الكريم، يجد أنه كان يقصد قصداً إلى توسيع دائرة اهتمامات الإنسان المسلم على مستوى الزمان والمكان والأشياء، وذلك كي يساعده على القيام بمهمة الاستخلاف، وبسط سلطانه على كل ما حوله، وفي هذا الإطار نجد أن القصص القرآني الذي تناول أخبار الأمم السابقة جعل المسلم ينخرط في السياق العام لتاريخ البشرية، ليبصير أيام الله تعالى فيها وليبصر ملامح الخير والشر في سلوكاتها.

وحديث القرآن الكريم عن المستقبل لم يكن يستهدف إعداد المسلم للنجاح الأخروي فحسب، وإنما استهدف توسيع مدى الرؤية لديه، وتخليصه من أسر اللحظة الراهنة الذي يقع فيه الإنسان الكَلّ المعطِّل، وحديث القرآن الكريم عن سلوك الحيوان كالنحل والنمل مثلاً وعن الجبال والأنهار و الرياح والأفلاك يثري ثقافة المسلم بالبيئة المحيطة ،ويلفت نظره إلى وجوه التسخير في هذه الأشياء، فيقيم معها العلاقة التي تمكنه من الانتفاع بها. 

ولا يكتفي القرآن الكريم بذلك بل يوسع دائرة اهتمامات المسلم ليتفاعل مع أحداث كبرى تجري في زمانه - مهما كان بعيداً عن التأثر بها - كما في إخباره عن الصراع بين الروم والفرس، وإعلامه المسلمين بأن الغلبة ستكون للروم في بضع سنين، بل إن القرآن الكريم يصور لنا المشاهد المؤلمة التي تحكي معاناة بعض الناس، كما في قصة أصحاب الأخدود، ليجعل من الحزن وسيلة اتصال مع الناس والعالم، والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا، لماذا يقرأ المسلمون القرآن الكريم كل يوم دون أن تشتعل لديهم جذوة الاهتمام؟!

ثانياً: كثير من الناس يملكون كل مقومات العظمة، لكنهم لم يصبحوا عظماء، لا لشيء إلا لأن اهتماماتهم تافهة، وكثير من الدول تملك ثروةً هائلةً لكن خمول شعوبها وتجرد أبنائها من السعي لأي هدف عظيمٍ حرمها من التفاعل مع المعطيات الحديثة، وجعلها لا تنتفع بثرواتها المتعددة، وقد كان "المال" في الماضي عماد الثراء الشخصي والأممي، كما كان عمود النجاح في النظام التجاري، وقد أخذ كلُّ ذلك الآن بالتغيّر، وأخذت تحلّ محلّه أشياء غير مادية، فثراء الأشخاص وكذلك الأمم لم يعد يقوّم بالأرصدة والممتلكات، وإنما بمقدار ما يملكون من اهتمامات ودوافع وأفكار ومعلومات ونظم، وهذا ما يفسر لنا انتشار الجوع في بلدان عربية تملك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة ،على حين تملك دولة أخرى مساحة محدودة من الأرض الزراعية ومع هذا فهي تصدّر الخضار والفاكهة إلى عدد من الدول. 

ثالثاً: تسجل الدول الصناعية 97% من براءات الاختراع، وتترك لــ 80% من سكان الأرض 3% فقط. وفي عام 1998م، سجل اليهود في فلسطين (577) براءة اختراع لدى مكتب العلاقات التجارية الأمريكي، على حين سجل العرب (24) براءة اختراع فقط، وكثير من تلك البراءات تسجَّل من قبل هواة ومهتمين غير محترفين، لكنهم ينتمون إلى شعوب تسيطر عليها فضيلة الاهتمام، وأقرب مثال على هذا برامج الحاسب الآلي، إذ إن معظم البرامج الموجودة في الأسواق هي من تصميم هواة. 

خاتمة: 

إن أمتنا لن تقف في مصافّ الأمم ما لم يسهم كل واحد من أبنائها بشيء مفيد يضاف إلى رصيدها العام، ليتشكّل لدينا من قطرات الماء نهرٌ أو جدولٌ، ومن الحصى المتناثر تلٌّ أو جبل، وإن كثيراً من القصور الذي نعاني منه في هذا الشأن يعود إلى التربية الأسرية التي يتلقاها أبناؤها، ثم تأتي المدارس لتزيد الطين بلة، فهي لا تهتم بتكوين الشخصية لطلابها، وليس عندها أي وبرامج أو تدريبات لبعث الاهتمام بالأشياء المفيدة أو الجديدة، وكان عليها عوضاً عن الأرقام الصمّاء التي تلقّنها لطلابها عن إنتاجية العالم المتقدم، أن تشرح لهم العوامل والأخلاقيات التي تقف خلف تلك الأرقام، من نحو ساعات الاهتمام والمثابرة والجديّة والتنظيم والتعاون، وأن تشرح لهم الدور الرائع الذي تؤديه المبادرة  الفردية، والهوايات المتعددة، والمشروعات الصغيرة، في إغناء حياة العالم المتقدم. 

إن أمتنا لن تحصل على المقام الذي تستحقّه، ما لم يصبح الاهتمام بالميزات والتفاصيل والأشياء الصغيرة حركة مجتمع لا حركة صفوة. 


[1]من كتاب "المشروع الحضاري" للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار، تحرير: أ. عامر خطاب.

مقال من جامعة رويال ملبورن للتكنولوجيا في أستراليا مستقبل التعليم والتعليم تغييرات كبيرة في مجال التربية والتعليم 6 مفاتيح للتربية الناجحة