مقدمة
باتت القراءة في هذا العصر الرقمي الذي نعيشه، تسيطر عليها تقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة باختلاف منصَّاتها ومرجعيَّاتها، حتى إنها كادت تكون البديل عن تناول الكتاب الورقي والشروع في قراءته إلا قليلاً.
ولأنَّ القراءة أساس المعرفة التي تُعتبر مقدِّمةً أساسيةً لاتخاذ أيِّ قرارٍ مصيريٍّ في حياة كلِّ فردٍ مهما تنوَّعت مشاربه أو انتماءاته، ومن ثم فإنَّ ذلك سينعكس على سلوكيَّاته وتصرُّفاته، ولأنَّ الكلمة المكتوبة هي أساس المعرفة، والقراءة من أهمِّ وسائلها على مرِّ العصور مهما تطوَّرت تقنيَّاتها، فإنَّ أيَّ عرضٍ حداثيٍّ في هذا العصر الرقمي من مجلَّاتٍ أو أفلامٍ أو ما شابه ذلك، أساسه معلوماتٌ خطَّتها يدُ كاتبٍ، ومن ثم تحوَّلت -بالقراءة- إلى إنتاجٍ معرفيٍّ في متناول روَّاده، وهنا ينبغي التمييز بين منتجٍ معرفيٍّ أساسه -وهو المعلومة المكتوبة فالمقروءة- صحيحٌ ينتج عنه قراراتٌ تنبني عليها سلوكيَّات مجدية وفاعلة تؤدِّي إلى النجاح والتميُّز في الحياة، أو منتجٍ معرفيٍّ أساسه لربَّما خرافاتٌ أو معارف وثقافة غير علميةٍ سيُبنى عليها قرارات خائبة وفاشلة تؤدِّي إلى الإخفاق.
وبالمثال يتَّضح المقال:
- التخصُّص الجامعي: كل فردٍ منَّا يسعى إلى تأمين حياةٍ كريمةٍ وعملٍ مناسبٍ من خلال اختياره لتخصُّصه العلمي في دراسته الجامعية، وليكون هذ الاختيار صائباً، فلا بدَّ من الوقوف على الأساس المعرفيِّ الصحيح الذي إن افتقدتَه قادك إلى فشلٍ ذريعٍ أضعتَ فيه خمساً من سنيِّ حياتك لتكتشف ذلك بعد فوات الأوان.
- الزواج: اختيار الزوجة عموماً عند الشباب يقوم على أساس الشكل أو المعرفة العامَّة، ولكن هل وقفتَ لتسأل نفسك: ما الذي أريده من هذا الزواج؟ كيف أختار الزوجة المناسبة؟ سؤالان في غاية الخطورة، إن كان الجواب عليهما مبنيَّاً على أساسٍ معرفيٍّ صحيح أو غير صحيح، تظهر نتائجه بعد مدَّةٍ من الزمن، فإمَّا زواج ناجح وإمَّا زواج فاشل.
- فهمك لقضايا الدين: في قضيةٍ من أخطر قضايا الدين ألا وهي قضية القضاء والقدر، نستسهل الإجابة عند نزول المصائب والمنايا بقولنا: هذه أقدار الله عزَّ وجلَّ، ولا نملك أن نخالفها. ولو أننا سألنا أنفسنا: ما الأساس المعرفي الذي وقفنا عنده لنفهم هذه القضية الخطيرة، التي بنينا عليها قراراتٍ مصيريةً في حياتنا!؟ فكم من مسألةٍ شرعيةٍ في حياة أحدنا أخذ فيها فتوى بالتحريم بناءً على أساسٍ معرفيٍّ فاسدٍ، فأمضى بها حياته في فهمٍ دينيٍّ خاطئٍ!
إذاً؛ فالقراءة هي موضوعٌ جوهريٌّ في حياة الإنسان، ويمكن أن نقول في عبارةٍ مركَّزةٍ مختصرةٍ:
ليس أخطر قرارٍ تتخذه في حياتك تخصُّصك الجامعي أو اختيار شريكك في زواجك أو فهمك وثقافتك الدينية، وإنما أخطر قرارٍ في حياتك هو: ماذا تقرأ؟ وكيف تقرأ؟ |
لأجل ذلك كلِّه كان عنوان مقالتنا: القراءة الفاعلة في العصر الرقمي، مع توضيح أمرين اثنين:
الأول: كلمة القراءة الفاعلة مصطلحٌ إداريٌّ وتربويٌّ، إلا أننا ما نقصده من هذه الكلمة هنا هو: كيف نقرأ قراءةً تُنتج ثمرةً إيجابيةً؟ فما أكثر الكتب التي تشدُّنا عناوينها، غير أن مضامينها خاويةٌ ولا تمتُّ بصلةٍ إلى العنوان الذي شدَّنا إليها.
الثاني: إن مصدر التثقيف الأساس في العصر الرقمي هو وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف وسائلها ومنصَّاتها، أي: أنه أصبح أكثر سهولةً في إيصال المعلومات؛ بل وأكثر خطورةً؛ إذ لا بدَّ من الوقوف على مصدر هذه المعلومات التي تُرسل إلينا ونتلقَّاها من كافَّة المصادر والمراكز على اختلاف مشاربها؛ سواءٌ منها الصحيح المفيد، أو المشبوه المفسِد؛ فتتزاحم علينا المعلومات في هذا الفضاء الرقمي الواسع والتي تتحوَّل بدوها إلى معارف ترسم لنا مسارات الحياة.
بناءً على ما سبق؛ فإنه من الواجب الوقوف على كلِّ ما يرِد إلينا من المعلومات والمعارف، من خلال قراءةٍ فاعلةٍ جدِّيةٍ؛ إذ أخطر قرارٍ في حياتنا هو: كيف نملأ عقولنا مجموعةً من المقدِّمات الفكرية التي يُبنى عليها القرار الصحيح اللازم. |
من خلال هذه المقدمة، سأنطلق معكم في هذه الرحلة الطيبة ضمن مساراتٍ ثلاثةٍ مختصرةٍ وفق التالي:
المسار الأول: لماذا نقرأ؟
تتلخَّص الإجابة عن هذا المسار في التالي:
- أولاً: وهو أهمُّها، القراءة الرشيدة تُنتج حياةً رشيدةً
إذا كانت القراءة هي المقدِّمة الأساس لتنظيم حياةٍ أفضل، فإذاً؛ لا بدَّ من أن نقرأ قراءةً رشيدةً، وخير مثالٍ يمكن الوقوف عليه هنا كتاب "القراءة صنعة العظماء"؛ حيث وقف كاتبه على ذكر سِيَرِ مجموعةٍ كبيرةٍ من القادة والفلاسفة والمخترعين، والعلامة الفارقة التي ظهرت في سيرة كلِّ عَلَمٍ من أعلام هذا الكتاب أنَّ نقطة التحوُّل والتميُّز التي شكَّلت انعطافاً كبيراً في حياتهم هي القراءة التي استوعبت كلَّ ما كان يُطرح؛ الأمر الذي مكَّنهم من أن ينتقدوا، ويتأمَّلوا، ويبدعوا إنتاجاً جديداً، ويمكن لنا هنا أن نذكر مثالين اثنين لشخصيَّتين أساسيَّتين:
المثال الأول: شخصيَّة "ابن الهيثم" هذا العالم الإسلامي الكبير
من أشهر كتبه: "المناظير"، كتابٌ ضخمٌ ورائعٌ. لكن: كيف تمكَّن "ابن الهيثم" من تأليف هذا الكتاب؟ وهل هو كتابه الوحيد؟ لقد قرأ "ابن الهيثم" في مختلف العلوم؛ فألَّف تصنيفاته الواسعة، وبالتالي كان له الفضل في النتاج الإنساني العلمي والعلوم التطبيقية على كلِّ مَن أتى مِن بعده، فمثلاً: "روجر بيكون" صاحب المنهج التجريبي سبقه "ابن الهيثم" بما يزيد عن قرنين من الزمن.
المثال الثاني: "نيوتن"
قبل "نيوتن" كانت الناس تعيش حالةً من الخرافات في تفسير الأحداث تفسيراً خرافيَّاً، فلمَّا جاء "نيوتن" وضع قوانين الميكانيك العشر، وبعد ذلك حدث التحوُّل الكبير في تاريخ الإنسانية في الصناعة والتقنيَّات، وشهدنا الثورات العلمية التي نراها وصولاً إلى الثورة الرقمية.
إن الحضارة المعاصرة التي وصلت إليها الإنسانية هي نتاج القراءة الرشيدة، وإنَّ جميع العظماء في الدنيا، حتى السياسيِّين منهم، كرؤساء الولايات المتحدة وبريطانيا، إذا ما قرأت في سِيَرهم الذاتية، وجدتَ أنهم كانوا يقرؤون بكثافةٍ، بل حتى "بيل جيتس" صاحب أهمِّ ابتكارٍ بشريٍّ في هذا العصر، مِن الذين يقرؤون ثقافةً متنوِّعةً شاملةً.
وإنك إذا ما تركت القراءة، وإذا ما تعاملتَ معها بطريقةٍ هشَّةٍ، فهذا يعني أنك تخسر أن تعيش حياةً متميِّزةً في قادم الأيام، وهذا ما يشهد به التاريخ ويصدِّقه الواقع، وإنك إذا نظرت في الأبحاث التجريبية: من أين تبدأ؟ لَوجدت أنَّ كلَّ ما أُنجز سابقاً من كتاباتٍ ومن نتائج علميةٍ، أو يُنجَز حاليَّاً، يبدأ في ضوء معلوماتٍ حديثةٍ تصل إلى نتائج جديدةٍ تنتج نظريةً جديدةً تؤلَّف وتنشر وتختبر، فإذا ما ثبتت نُسبت إلى صاحبها، لتؤثِّر بدورها على مسار الإنسانية.
إذاً؛ فالخطوه الأساس التي انطلق منها العلماء من المنهج التجريبي، واستطاعوا أن يهيِّئوا منصَّةً هامَّةً جدَّاً لكلِّ هذا العصر الذي نراه، بدأت بالدراسة والقراءة، وفهم كلِّ التجارب والخبرات والمعارف، ثم أسَّسوا النظريات الجديدة. |
- ثانياً: أثبتت أبحاث علماء التربية وعلماء الدماغ وعلماء الأعصاب أنَّ القراءة تنمِّي الخلايا العصبية، وإذا ما تقدَّم العمر في هذه الخلايا فلن تشيخ باكراً، ولن يصيبها الزهايمر، وستكون في حصنٍ منها؛ بل إن القراءه تُسهم في تخفيض التوتُّر.
- ثالثاً: تطلعك القراءة على تجارب إنسانيةٍ تعرِّفك: ما الممكن؟ وما الذي لا يمكن أن يكون؟
- رابعاً: القراءة هي مقدمة المعرفة، وهذه المعرفة تجعلك تقضي على مساحات القلق؛ حيث تساعدك على أن ترسم خارطة طريقٍ: كيف تتحرَّك إلى الأمام؟ وتخرجك من خانة الفوضى والجهل في مسارات حياتك، فتعينك على اتخاذ اختيارات التعلُّم، والزواج، والممارسه الدينيه الصحيحه.
المسار الثاني: لماذا لا نقرأ؟
لماذا لا نقرأ؟ بل لماذا لا نريد أن نقرأ إلا ما يصل إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة؟
تتلخَّص الإجابة عن هذا المسار في التالي:
- أولاً: أغلبنا نشأ في المدرسة التي عادةً ما تكون ممارساتها تصبُّ ضدَّ تفعيل القراءة الرشيدة في حياتنا، فغالباً ما يتمُّ التعاطي مع هذا الموضوع بطريقةٍ سلبيةٍ غير فاعلةٍ، ولا تواكب العصر وتطوُّراته، ممَّا يجعلنا نعزف عن الكتاب ونميل إلى الوسائل المعاصرة في الوصول إلى المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعية لسببٍ رئيسٍ،ألا وهو: الوقوف على الكتاب الخاطئ في تجربةٍ سابقةٍ بتوجيهٍ لم يكن صائباً ضمن النطاق التعليمي المدرسي.
- ثانياً: في حال عدم توفُّر الهدف الواضح لديك، وعدم توفُّر هاجس البحث للإجابة عن سؤالٍ معيَّنٍ، فلن يكون لديك حافزٌ للقراءة؛ بل ستكتفي بما يتوفَّر لديك من معلوماتٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي مؤثِراً الراحةَ مبتعداً عن التعب والجد.
- ثالثاً: عدم الموثوقيه في الكتاب الذي تقرؤه، والسبب يعود في ذلك إلى سوء اختيار العناوين ضمن إطار موضوعٍ معيَّنٍ، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بالعلوم التجريبية والكونية.
- رابعًا: أخيرًا، وهو أمرٌ من الأهمية بمكانٍ، وهو أنَّ القراءة عندنا ليست في قائمه أولويَّاتنا.
المسار الثالث: كيف نقرأ بشكلٍ فاعلٍ في العصر الرقمي؟
سأنطلق في هذا المسار من تجربةٍ عمليةٍ مورست لسنواتٍ وقفَتْ على تحقيق هذا الهدف الذي يبتغيه كلُّ مهتمٍّ وراغبٍ بالقراءة الفاعلة المثمرة، وهي تجربة مركز الصفوة للدراسات الحضاريَّة الذي عاش هذه التحديات كاملةً، وبدأ يعمل على قضية: كيف ندير المعرفه في عالمٍ متغيِّرٍ؟ وكيف نفعِّل المعرفة في هذا العالم الرقمي؟ فكانت الرحلة تدور حول الوقوف على الكتب التي يُحسَب بحسب رؤية المركز أنها تجيب عن أسئلةٍ تتعلَّق بنهضة الأمة، والإنسان، وتنظيم التفكير، والتي يمكن أن تشكِّل مرجعيةً ويُبنى عليها، ويمكن بيان ذلك وفق المراحل الأربع التالية:
- الأولى: تلخيص هذه الكتب وطباعتها.
- الثانية: تحويل هذه الكتب إلى كتابٍ مرئيٍّ يُعرَض في دقائق معدوداتٍ تلخِّص أهمَّ أفكار الكتاب.
- الثالثة: تحويل الكتب الى "أنفوغرافيك"؛ بحيث يمكن للقارئ التعامل مع مجموعةٍ من الكتب من خلال خلاصةٍ مركَّزةٍ في صفحتين تمكِّنه من امتلاك مجموعةٍ من الأفكار.
- الرابعة: العمل على تأسيس الفضاء الرقمي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال أكاديمية الصفوة، ومن خلال النشر المعرفي الذي يراعي عادات التعلُّم والعالم الرقمي.
حياتي جوهرةٌ ثمينةٌ عظيمةٌ.. فكيف لي أن أجعل منها حياةً متميِّزةً؟ هذا السؤال إذا كان يراودني ويشكِّل عندي هاجساً، وهو سؤالٌ تنبثق عنه أسئلةٌ كثيرةٌ تتعلَّق بالوصول إلى هذه الحياة المتميِّزة المرجوَّة، فإنَّ كلَّ ذلك سيقودني إلى التفكير، وإلى وضع الخطط المناسبة، وإلى التعرُّف على الاحتياجات الأساسية، وإن ذلك لا يمكنني الوصول إليه والوقوف عليه، إلا أن تكون القراءة عادةً وجزءًا أساسيَّاً من حياتي.
مقال مقتبس من محاضرة للدكتور أحمد اليوسف، ألقاها بتاريخ 9/12/2023 في صالة المحاضرات في معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي ، تحرير د. إياد صبحي دخان