قول في السعي واللاسعي

التصنيف

المقالات

التاريخ

31/05/2024

عدد المشاهدات

442

الملف

تصفح ملف PDF

لمَّا كنَّا لا نملك -أصلاً- أقوى من النص القرآني لنبني عليه تصوُّراتنا وتحليلاتنا كما قال طه عبدالرحمن، فإنَّ التدبُّر بالآية الكريمة المصدَّرة عنواناً للمقالة، يفتح لنا آفاقاً من النظر والعمل بقدر ما نطيق من اقتباسٍ من أنوار هذه الآية وقوانينها وتصوُّراتها وحقائقها.

فالمسلمون بحاجةٍ إلى الوقوف لتدبُّر قرآنهم بقدرٍ يفوق قراءتهم له وختمهم له فقط، فهو إن لم يكن جواباً صريحاً عن سؤالٍ واجهك، فلا أقلَّ من أن تحظى بالإرشاد والتوجيه الفائق لك فيما تسأل عنه: أين تجده؟ وكيف ترتّب أولوياتك؟ وكيف تستخرج المقاصد؟ وكيف تنفعل في معاشك منشِئاً لَبِنةً تِلوَ لبنةٍ لبنائك في العمران الذي كُلِّفت به منذ استخلفك الله و استأمنك؟

وننظر في الآية، فنجد العناصر التالية:

1.  توفير الموارد وتسهيل تحصيلها؛ سواءٌ كانت مباشرةً، أو موادَّ أوليةً تحويليةً (الأرض الذَّلول).

2. الحركة، والمشي، والانتقال، والانفعال، والسعي في طلب الرزق، بشروطه المعهودة التي تتبدَّل من عصرٍ إلى عصرٍ (تخطيط، وعمل، وإنجاز): قوانين طلب الرزق (المشي).

3. المنتَج والثمرة الطيبة؛ منها قريبة التحصيل؛ ومنها البعيدة الشاقَّة، وتتوزَّع بين تقنيةٍ، وصناعيةٍ، وزراعيةٍ، وتجاريةٍ، وخدماتيةٍ، وغيرها (الأكل من الرزق).

4. قاعدة تخليق الارتزاق؛ بتثبيت قانون المسؤولية والمحاسبة الذي يوجَد ويسير مع كلِّ مراحل العملية الإنتاجية: (النشور)؛ فتتغلغل المسؤولية في كل هذه المراحل:

       - تحديد الاحتياجات.

       - وضع الأهداف.

       - تحديد الموارد وجمعها.

       - تجهيز الآليات والأدوات.

       - العمل والجدّ والاجتهاد والإنجاز.

       - مساحة تأثير الفائدة واتساعها -الذات، والغير العاجل، والآجل-.

ففي سورة الملك الآية الخامسة عشر السالفة الذكر: {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًۭا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ }، نجد تنظيماً لتراتبيَّة الإنجاز: (الموارد المسخَّرة) + (الحركة والعمل والإنجاز) + (الإنتاج والثمرة والرزق = الرزق منتَجٌ يشارِك في تصنيعه الإنسان من الموادِّ الخام المسخَّرة وتخطيطه وجهده) + (تخليق الارتزاق من خلال تثبيت المسؤولية عن المنتج وآليات إنتاجه ومآلاته)، هذا من جهةٍ، وهي تكشف لنا بتصريحها بما تضيئه وتوجّهه من عناصر العمل والعمران والاستخلاف على وجهه الصحيح جانباً آخر كذلك، يظهر في نقيض هذه العناصر، وأنَّ غياب أيِّ عنصرٍ منها ينتقص من صحة العمل أو إحسانه، وبقدر توفُّرها، نقترب من الإنجاز على وجهه المناسب والمطلوب.

ومن خلال نقيض هذه العناصر تتكشَّف لنا -كذلك- أمراضٌ واختلالاتٌ كثيرةٌ تُظهِر فعل (اللاسعي)، وهي حاضرةٌ اليوم في دنيا المسلمين، وتعمل عملها السيّئ فيهم.

لقد تحدّثت الآية عن الموارد المتوفّرة والمتاحة والمبذولة في هذا العالم، ولا شكَّ أنَّ هذه الموارد المادية من قوىً إنسانيةٍ جسديةٍ وفكريةٍ وعاطفيةٍ، ونباتٍ ومعادنَ وقوانينَ، توجّه أنظار المسلم إلى تخصُّصاتٍ علميةٍ بحتةٍ؛ كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والطبِّ، والجيولوجيا، والعلوم الاجتماعية، والإنسانية، والإحصائية، وتوابعها ومثيلاتها من علومٍ ومعارفَ مطلوبٍ تحصيلُها من أجل تحقيق العمران والاستخلاف؛ ممَّا يتطلَّب أن تكون هذه العلوم مقصودةً مطلوبةً أصالةً لا تبعاً.

فكما أنَّنا نطلب العلوم الشرعية، ونتخصَّص فيها لنكشف مراد الله عز وجل منَّا في هذه الدنيا، لا بدَّ -كذلك- أن نتخصَّص في العلوم الأخرى؛ لنكشف الحكمة من هذا الخَلق، ونستخرج قوانين الوجود، إلى جانب إجابتها عن فضولنا؛ فهي تُسيِّر حياتنا، وتصرف عنَّا الجوع والفقر والمرض والجهل والضعف، وبقدر ما تتحقَّق العلوم بشرطها الأخلاقي الذي يحفظها من أن تخرج إلى نقيض وظيفتها التي تتغيَّا خدمة الإنسان بتوفير المأكل والمشرب والمسكن ووسائل التنقّل والتواصل والتعارف، بقدر ما يَعْبُر الإنسان دائرة البلاء والاختبار الإلهي في دنياه وأخراه بأمانٍ وسلامةٍ.

إنَّ الجمع بين حقِّ العلم والفهم لآيات الله المسطورة وآيات الله المنظورة، ليس أمراً هامشيَّاً في دائرة المباح بين الترك والفعل، إنما هو مطلبٌ مُلِحٌّ ومصيريٌّ، ولمَّا تخلَّينا عن هذا الدور في الجمع، تفرَّد به الآخر مُقدِّماً وجه قوانين الكون على وجه آياته الدالّة على خالقه ومرشده ومقصده، أي: على آيات الكتاب المسطور، فخرج على الناس بِقَدَمٍ عرجاء، ولكنها قدمٌ ثابتةٌ متسيِّدةٌ، فالجميع -سواه- بلا أقدامٍ أصلاً، أو إن شئتَ، فقل: إنَّ عرجه أخفُّ من عرج المسلمين؛ وذلك لأنَّ المسلمين اليوم أهملوا قَدَم القوانين التي في الكتاب المنظور، وقصَّروا كثيراً في حقِّ الكتاب المسطور وحقيقته، بدلالة انشغال غالب المتصدّرين للعلم الشرعي بما لا يفيد المسلمين من تفاهات الخلاف وشواغلَ بلا طعمٍ ولا لونٍ ولا رائحةٍ، وأهمُّ مَلمَحٍ يظهر فيه الانشغالُ التافهُ هذا، هو ترك المسائل الفكرية - الفقهية، المتعلّقة بالقضايا المفصلية، والحديث عنها بخجلٍ وإيجازٍ، فأَولى الأولويات ضبط الحقوق وتثبيتها، وهي: الكرامة، والحرية، والمسؤولية، والعدالة، وكذلك توضيح الواجبات من التزامٍ وانضباطٍ وأخذٍ بالأسباب العلمية ووسائلها المنجِزة للعمران الفردي والمجتمعي، ولا بدَّ أن يعاد ترتيب بعض أبواب الفقه بما يجعل هذه الحقوق تتصدَّر، وتصبح من المقاصد العليا، فتتحقَّق الأحكام الشرعية، وتتحقَّق مقاصدها معها، فلا يُفكُّ بينها، ولا تتخلَّف عن بعضها.

ثم إنَّنا نجد الطاقات تتبدَّد في غير محلِّها، وذلك بحدوث السعي في غير محلِّه، فكما أنَّ الدول المتقدّمة تقوم بالتخطيط لمستقبل أبنائها من خلال دراسة التخصّصات التي يجب أن يُقبِل عليها الطلاب بعددٍ معيَّنٍ من أجل سدِّ احتياجات المجتمع المحلي أو المجتمع العالمي، اتّساقاً مع الحاجات المحلية أحياناً، واتّساقاً مع تطلُّعات الواقع العلمي والتجاري العالمي أحياناً أخرى، فكذلك يجب على المسلمين أن يلتفِتوا إلى هذا التوجيه، ولا يشغلوا التخصّصات الدينية بمَن ليس كفئاً، فلا حاجة للمسلمين أن يدرس أحدُهم الشريعةَ، ثم يصبح مُعلّماً وهو غير مؤهَّلٍ نفسيَّاً ولا علميَّاً ولا ثقافيَّاً، فلا يصحّ أن يتصدَّر هذا الموقع من جهة تبليغه على وجهه وتطويره وتنزيله إلا مَن يليق به، ويحفظ للوحي عصمته وقدرته في أن يكون جواباً عن أسئلة العصر وتبدُّل التاريخ وسطوته، ولا يكون هذا لمن جهل حال واقعه وأعرافه من جهةٍ، وحقيقة الشرع الرحموية والتيسيرية التي يقوم على قاعدتها كلُّ اجتهادٍ ونظرٍ شرعيٍّ.

والحاصل أنَّ المسلمين قد أهملوا هذه الحقوق والواجبات إهمالاً فاضحاً، وبدلاً من أن تكون هذه الحقوق حقوقاً تُفرَض فرضاً على أصحابها، أضحت بين الإهمال والمِنَّة، فهي إن أُهملت وضُيِّعت، فهو الوضع الطبيعي، وليس أمراً كبيراً أن تُضيَّع، وإن أُنجز بعضها، كانت مِنَّةً على المواطن أو من المواطن. فلا المسلمون توسَّلوا بالعلم التطبيقي وآفاقه وآثاره الإيجابية للإنسان، ولا هم قاموا بحقِّ العلم الديني حقَّ قيامه بما يحفظ كرامة الإنسان.

وأريد أن أضرب مثلاً في فضيلة الجمع المعقول بين مختلِف القيم بحسب الإمكان والأحوال، فلا كمالات هنا، وكيف أنها تُقْدِر الأممَ على الحضور الحضاري والبقاء والمدافعة، والمثل المضروب سيكون "الدولة العثمانية" أصالةً، ومعلومٌ أنَّ الحضارات لها أعمارٌ كغيرها من الكائنات، تنمو وتكبر وتنضج، ثم تمرض وتشيخ وتموت، وتتفاوت الحضارات بمقدار كل مرحلةٍ من هذه المراحل، ولقد كان مِن أمر الدولة العثمانية أن تمرَّ بهذه المراحل وتعيشها جميعاً، ولكنني سأقف عند عوامل البقاء وإطالة العمر والعمران؛ فالذي جعل الدولة العثمانية يطول عمرها عن غيرها، وينعم رعاياها بما لا ينعم به غيرهم، هو الجمع بين القيم المتعدّدة: القيم الإيمانية والقيم المادية، القيم الأخلاقية والقيم النفعية، لقد استطاعت الإمبراطورية العثمانية أن تُخَلِّق السعيَ والارتزاقَ بقدر ما تسمح به المدافعة وشروط الواقع الضاغطة والمصالح.

من المعلوم أنَّ الدولة العثمانية التي لم تحظَ في الغالب بالإنصاف في إظهار حقيقتها، فانتشرت الصورة المشوَّهة والمزيَّفة التي تحطُّ من شأنها في كل شيءٍ، حتى جاءت الدراسات المتخصّصة وأظهرت فضائلَ مسكوتاً عنها بدراساتٍ وإحصاءاتٍ ووثائقَ وشهاداتٍ من الأعداء والمخالفين قبل أن تكون من أهلها والمقرَّبين، وأسوق هنا بعض الدلائل على هذا التخليق.

في سياق النظام الضريبي العادل، يقول الدكتور محمد أنيس في كتابه "الدولة العثمانية والشرق العربي 1514 إلى 1914": "إنه عند مقارنة الضرائب المملوكية والإيرانية بالضرائب العثمانية، نجد أنَّ الضرائب العثمانية كانت أخفَّ وطأةً، لسببٍ واضحٍ هو قلَّة الحروب في الشرق الأدنى بعدما أحكمت الدولة العثمانية المنطقة بأسرها"، وقد أكَّد هذا كلٌّ من "جب" و"يوون" في كتابهما: "المجتمع الإسلامي والغرب".

وحول فرية استبدادية الدولة العثمانية، يقول المؤرخ شارل العيساوي في كتابه "التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط وجنوب إفريقيا": كانت سلطة السلطان العثماني محصورةً في منطقةٍ صغيرةٍ حول إسطنبول، رغم ضخامة الدولة التي كانت بقيَّتها تُحكَم بواسطة باشوات وأعيانٍ وزعماء قبليِّين مستقلِّين استقلالاً ذاتيَّاً".

وبشأن تعدُّد مراكز الإدارة والمشاركة، أكَّد دونالد كواترت في "الدولة العثمانية 1700 إلى 1922" أنَّ قوة السلطان في الدولة العثمانية لم تكن مستمدَّةً من الجيش وحده؛ بل من تواصل السلالة الحاكمة مع القوى السياسية والشعبية أيضاً.

وفي سياق توفير قيم الأمن والرخاء، يقول ألبرت حوراني: "إنَّ تاريخ الولايات الناطقة بالعربية في الإمبراطورية -العثمانية- يبدو على قدر ما أمكنت دراسته شبيهاً بالمناطق الأوروبية والأناضول، ويبدو أنَّ السكّان قد ازداد عددهم في المرحلة التي تلَتِ الغزو العثماني مباشرةً، وذلك بسبب استتباب الأمن والرخاء العامّ في الإمبراطورية".

أمَّا التسامح والتعايش، فيقول عنه المؤرخ الروسي كريمسكي: "إنه في البلقان والمجر وأوروبا الغربية وروسيا برزت مجموعاتٌ كبيرةٌ من الناس كانت أفكارهم ومشاعرهم -وبدرجاتٍ متفاوتةٍ- لا تخاف غزوات العثمانيّين وفتوحاتهم؛ بل تدعو إليها بصراحةٍ".

وضمن قيم القوة والعدالة والاستقامة والنظام، يقول المؤرخ الدكتور أحمد عبدالرحيم مصطفى عن العثمانيّين: "إنهم -بوجهٍ عامٍّ- كانوا جادِّين وأمناءَ ومستقيمين في الوقت الذي كانت فيه حيويّتهم في معالجة شؤون الدولة أعجوبة العالم؛ فالحكومة العثمانية كانت قويةً ومستقيمةً، كما كانت سياستها المالية من حيث جباية الضرائب معقولةً في الوقت الذي ساد فيه الأمن والنظام، بالإضافة إلى أنَّ القانون الإسلاميَّ كان يطبَّق بدون تحيُّزٍ إلى حدٍّ كبيرٍ.. كما أنها كانت أكثر من أوروبا رخاءً، على حين أنَّا رعاياها -مسلمين ومسيحيّين-، كانوا يتمتعون بقسطٍ من الحرية الشخصية، ومن نِتاج كَدِّهم يفوق ذلك الذين كانوا ينعمون به رعايا الدولة الغربية".

وحول "قانون الجدارة" في الدولة العثمانية، يقول زكاري لوكمان: "لا يدين أيُّ رجلٍ بمكانته إلى أيِّ شيءٍ سوى جدارته الشخصية وشجاعته، ما مِن أحدٍ يتميَّز عن الآخرين بفعل ميلاده، ويصبغ الشرف على كلِّ إنسانٍ وفقاً لطبيعة واجباته والمناصب التي شغلها.. وعلى ذلك كان الشرف والوظائف والمناصب الإدارية عند الأتراك (العثمانيّين) مكافآتٍ على القدرة والجدارة، ولا يحصل غير الشرفاء والكسولون والمسترخون أبداً على تميُّزٍ، وإنما يبقون مغمورين و محتَقرين، ولهذا نجح الأتراك في كل شيءٍ حاولوا عمله، وأصبحوا عِرقاً سائداً، ويوسِّعون يوميَّاً حدود حكمهم".

وحول ترشيد العلم والتوسُّل به وباختراعاته واكتشافاته، يقول المؤرخ نيكولاس دومانيز عن عصر السلطان عبدالحميد: "وقد استمرَّ تحديث هذه الدولة، وأقيمت مرافق الدولة المختلفة على أسسٍ رشيدةٍ وعقلانيةٍ بشكلٍ ملحوظٍ في كلٍّ من الجيش والإدارات المحلية والتعليم العامِّ والاتصالات؛ مثل: السفن التجارية، والطرق، وسكك الحديد، وشبكة البرق الكهربائي التلغراف.. وبينما عانت الصناعة العثمانية من تمدُّد البضائع العربية الرخيصة بين 1800 و1870، فقد شهدت نهضةً كبيرةً بعد ذلك، وانتشرت المصانع حول مراكز المدن، لا سيَّما في: إسطنبول، وسالونيك، وإزمير، وبيروت".

ولكن بقدر انحلال قوانين البقاء والعمل الجامعة بين "التخليق" و"السعي"، بقدر ما تجفُّ أنساغ الحياة والوجود في الشيء، فانقضت حياة الدولة العثمانية، وأصبحت تاريخاً يُروى كما غيرها.

ثم جاءت الحضارة الغربية الخالية من التخليق إلا غبرات، ولكن الممتلئة بالقوة والسعي والاندفاع، ما يدفع مخالِفَها الذي فَقَدَ مصادر القوة المُؤثِّرة إلى مواجهةٍ غير متكافئةٍ معها، متى أراد الحضور في التاريخ والتأثير فيه، أو المشاركة في بناء الإنسان من خلال وجهة نظره.

إنَّ هذا التصوُّر من السعي غير المتخلّق تفرَّدَ به الغرب، فقد تطوَّرت العقلية الغربية على قاعدة العقل الآلي -الأداتي- الوسيلي، الذي يرى أنَّ أعظم القيم التي يمكن بذل الجهد من أجلها هي: "الثروة"، و"القوة"، و"السلطة"، و"التقدُّم"، وهذه القيم لا تحتاج عنده أيَّ تبريرٍ من خارجها، فلا حاجة لعلَّةٍ أو سببٍ يجعلك تجمع الثروة إلا تحصيل الثروة نفسها، ولا التحقُّق بالقوة إلا القوة نفسها، ولا امتلاك السلطة إلا السلطة نفسها، ولا الإيمان بالتقدُّم إلا التقدُّم نفسه.

نعم.. لقد تأسَّست إمبراطورياتٌ غربيةٌ كبيرةٌ ضمن هذا التصوُّر، وبحسب هذه الدوافع المادية الصرفة؛ مثل: الإمبراطوريات البريطانية، والفرنسية، والإسبانية، والبرتغالية، والهولندية، والأمريكية، وكانت -وما زالت- لها سطوتها منذ قرابة القرنين، ولكنَّ قراءتهم للكتاب المنظور (الكون وقوانينه)، كان ينقصها ذلك التخليق الذي يحفظ للإنسان كرامته العميقة؛ أي: قيم الفطرة، وليس فقط: الكرامة الظاهرة المكفولة بالحقوق السياسية الضيّقة الخالية عن الاختيار الأخلاقي، فليست تكفي الحقوق السياسية المجردة من القيم الدينية الضابطة لوجهة الاختيار، والصحيح أنَّ الاجتياح الإمبرياليَّ الاستعماريَّ المرعب الذي قامت به هذه الحضارات الأوروبية، فأفقرت واستعبدت به إفريقيا، وأبادت السكَّان الأصليّين في الأمريكيَّتين وأستراليا وكندا، واحتلَّت واستنزفت موارد آسيا والهند، وحالت دون قيام أيِّ نهضةٍ هناك، كلُّ هذا يدلُّ على نوع الإنسان الذي تمَّ نحته وصناعته، لقد كانت ذواتاً بأوصافٍ استبداديةٍ واستعلائيةٍ واستبعاديةٍ، أو على الأقلِّ أُريدَ لها أن تكون هكذا، ومَن أفلتَ منها، إنما خالَفَ نموذجه السائد، ومِن جهةٍ أخرى، فبقدر ما امتلكت هذه الذوات مِن حرياتٍ متعددةٍ يفتقر إليها الآخر -خاصَّةً ما سُمِّي بالعالم الثالث، ومنهم العرب-، إلا أنَّ العالَم الذي تُستَثمَر فيه هذه الحرية هو عالمٌ متواضعٌ، فهو عالم الظواهر لا غير، والخالي من قيم الظواهر، أي: العالم المادي، أو العالم الملكي؛ حيث حَدُّ العلاقات محدودٌ جدَّاً؛ لافتقاره للأفق غير المتناهي، الذي لا يمكن أن تتفاعل معه إلا على شرط الإيمان والتوحيد، فوقتها تنفتح أمام الإنسان عوالمُ ممتدَّةٌ تعالج النقص الحاصل في قصور عالم الظواهر الذي حَشَرَ الغربيُّ فيه نفسه.

ولكن.. لو أجرينا مقارنةً بين حضارتَي اليوم (الإسلامية - العربية ما بعد العثمانية) و(الغربية أو العلمانية)، سنجد الأولى قد غلب عليها بلا شكٍّ طيفٌ من القيم الإيمانية على تشوُّهٍ في فهم كثيرٍ منها، خاصَّةً قيم العمران المتكامل مع عدم تحقُّقها بالقيم المادية، فضلاً عن تبعيَّتها العلمية للغرب. وأمَّا الثانية، فنجدها قد غلب عليها القيم المادية مع هشاشةٍ كبيرةٍ في القيم الدينية، فتكاد تتفرَّد القيم المادية بالفرد، فلا تتيح له غيرها، أقول: مَن الذي ينتصر في هذه المدافعة؟

إنَّ الحضارة المادية هي التي ستنتصر، ما دامت الحضارة الأخرى مهمِلةً لشروط قيم العمران المادي التي تمنحك القوة على البقاء، والمدافعة والمبادرة في الأرض؛ فالذي يمتلك قيم المواجهة والمبادرة، هو الحاضر وهو المسيطر، وهي قيم القوة والتقنية والمدافعة الحسِّيَّة في الدرجة الأولى؛ لذلك تجد الحضارة الغربية هي التي تصدم الحضارات الأخرى وتستفزُّها وتحاربها و تستعمرها؛ فالفراغ ليس حالاً ممكنةً، إما أن تكون قويَّاً متخلِّقاً مؤمناً، فتمتدّ جغرافيَّاً، وتفرض رؤيتك الأخلاقية، وتكفّ أذى الآخرين عن نفسك وعن الآخرين، وإمَّا أن تتلقَّى الضربات.

والمسلمون اليوم يتلقَّون الضربات الموجعة، حتى إنَّ الكيان الصهيوني يُعربِد في وسط 450 مليوناً عربيَّاً ومليارَي مسلمٍ، دون أن يجرؤ أحدٌ من المسلمين على كفِّ الأذى عن مسرى النبي ﷺ ومعراجه، ولا عن ملايين الفلسطينيّين الذين يلاقون الموت والقهر والتشريد والسجن كلَّ لحظةٍ منذ قرابة مئة عام.

إنَّ تحليل مفهوم التوحيد جيّداً، يكشف لنا شبكة قيمٍ كبيرةٍ جدَّاً، يتمُّ منحها -ولكنَّ المسلمين يُهمِلون غالبها- لمَن يتحقَّق بأبعاد التوحيد حقيقةً، وليس في هامش التوحيد، ومنها:

الصبر، الرضا، التضحية، القوة، الشجاعة، المبادرة، الإبداع، الخيال، الإنجاز، التوازن، العلم، الالتزام، الانضباط، الطموح، العدالة، الرحمة، احترام الوقت، الجدية.. والذي أقصده بالإهمال هنا هو أنَّ تفعيل المسلم لقيمٍ مثل الإبداع والمبادرة والانضباط واحترام الوقت خارج أرضه، يجد له صدىً أكبر، ويجعله يستفيد ثمرتها، فينصاع لها ويرفع من قيمتها ويؤمن بها، ما يعني أنَّ هناك خللاً فكريَّاً وثقافيَّاً في البيئة المسلمة، يجعلها تقبل بانتشار المرض والجهل والهوان والهزيمة، وغياب قيم القَوَامة الحضارية. إذاً؛ فلا بدَّ من مراجعةٍ جذريةٍ.

في الحقيقة هذا الذي أراه ليس مبالغةً في شيءٍ؛ فالتوحيد الذي هو إيمانٌ بالله تعالى المتصرِّف بالكون والعالم، وصاحب القوة التي ليس فوقها قوةٌ، هو نفسه سبحانه الذي أمر المؤمنين أن يستعمروا الأرض، ويقيموا الخلافة على شرط العمران المتخلّق؛ لذلك كان التوحيد أمراً مركَّباً من أفعالٍ كثيرةٍ لا بدَّ أن يطلبها المؤمن ويتعلَّمها ويتمرَّس بها.

ولا شكَّ أنَّ الابتلاء ليس فقط مصيبةً تنزل بالإنسان؛ بل إنَّ من الابتلاء أن تبذل الفكرة والجهد في أن تُبدِع وتُنتِج لتحفظ كلَّ ما ائتُمنت عليه، أليس المؤمن هو الذي يؤمن بأنه حَمَلَ الأمانة يومَ عَرَضَ الله عزَّ وجلَّ الأمانة على الأرض والسماوات والجبال، فحَمَلَها الإنسانُ، ووَثِقَ بنفسه، ووَثِقَ به ربُّه فرضيَ له أن يتحمَّلها!

أليس الزمن الذي تعيش فيه هو زمن الرسالة المحمدية التوحيدية! إذاً؛ فهو زمن الإسلام والمسلمين، إنه زمن شهودهم  وتحمُّل مسؤوليَّتهم عن جميع فعلِهِم وفعل الآخرين، إنهم مسؤولون عن تحقيق العدالة والرحمة في الأرض، فضلاً عن أن يفسحوا الأرض لتمدُّد رسالة التبليغ التوحيدي لتصل إلى الجميع، فيختارونها رضاً، أو يرفضونها عن اختيار كذلك، دون أيِّ ضغوطٍ تُجبِرهم من المسلمين، أو ضغوطٍ تحول دون إيمانهم من غير المسلمين.

إنَّ التحقُّق بالتوحيد أوله التلفُّظ بالشهادتين، ثم تبدأ ببناء حقيقة هذه الشهادة في الأرض، طالباً للعلم والقوة لتحميَ القيم التي تريد تبليغها والعمل بها.

تفكير في مناسبات تعدد التفكير الإنسان بروحه الإيجابية رأسمال الخروج من أزماته